التاريخ ماكر، يندفع كشلال، لا يجرى حسب هوى صانعيه المباشرين، لكنه يأتى حتما فى زمان ومكان معلومين. والتاريخ يأتى الآن بعد ألف عام، يأتى راكبا حصانا، كما يقول الفيلسوف الألمانى هيجل، لكنه حصان مطيع، لا يمتطى صهوته أى بونابرت جديد، فهذا الزمن ولى.. ولن يعود. يأتى هذا التاريخ أبيض، من خلال زيارة أوروبية جماعية نادرة إلى شرق المتوسط، بدعوة ودية من العرب، جيران أوروبا المباشرين، للقاء حضارى بمدينة شرم الشيخ المصرية، تجتمع فيه أوروبا متعددة اللسان والأعراق والأديان مع العرب ذوى اللسان الواحد، متعددى الأديان والأعراق، بحثا عن نسب ثقافى، ومصاهرة اقتصادية، كبديلين للتصادم العرقى والديني.
ألف عام من الصراع على جانبى المتوسط، ألف عام من الغزو والاحتلال، كانت الرايات فيه تتغير، ويبقى الهدف واحدا، مرة راية دينية بخطبة حماسية مجنونة من البابا أوربان الثانى قبل ألف عام فى مجمع كليرمونت بجنوب فرنسا عام 1095، ومرة من أجل توحيد أوروبا المتقاتلة ضد عدو خارجي، كما حدث مع اكتشاف البحار الإيطالى كريستوفر كولومبوس لأمريكا عام 1492، ومرات من أجل رفاهية الأوروبيين على حساب الشعوب الأخرى، كما جرى خلال خمسمائة عام، بدأت عام 1492 حتى عام 1924 تقريبا ، عندما هيمنت أوروبا ذات المساحة المحدودة على أكثر من 84٪ من مساحة العالم.
فى البداية اكتشفوا العالم الجديد، واحتلوا ما سمى بالأمريكتين، وانتهوا باحتلال شرق ووسط آسيا وشبه القارة الهندية، وأخيرا قارة إفريقيا وحضارات شرق المتوسط القديمة، وطبعوا كل هذه الشعوب بطابعهم الاجتماعي، وهيمنوا على مقدراتهم، حتى خرجوا مع بزوغ حركات التحرر الوطنى مع بزوغ فجر القرن العشرين، لكنهم تركوا بصماتهم فى كل مكان عاشوا فيه، نتيجة تقدمهم العلمى الأسطورى، واستحواذهم على ثروات العالم، واتخاذهم الغزو سبيلا فى استمرار التقدم العلمى والهيمنة الثقافية، واستمرار فكرة الحروب الدائمة لإخضاع الشعوب بالقوة، كما شرعها القائد الأسطورى نابليون بونابرت، فبرغم هزيمته المدوية فى معركة واترلو على يد القائد الإنجليزى وينجلتون الذى منعه من احتلال الجزر البريطانية، فإن فكرة بونابرت بقيت صالحة للاستعمال، كلما توافرت النية واللحظة المناسبة.
وإذا كانت النية المبيتة موجودة دائما، فإن اللحظة لم تعد مناسبة، وإلى أزمان طويلة قادمة لن تعود بالمطلق، فإقليم شرق المتوسط بات محصنا ضد كل فيروسات الهيمنة، فما واجهه من غزوات وفوضى متلاحقة طوال ألف عام جعله كالقلعة الحصينة ضد الذوبان والتلاشي، واكتشفت أوروبا أن جدار شرق المتوسط ليس هو نفسه جدار الهنود الحمر فى الأمريكتين، فقررت المصاهرة بديلا عن الصدام.
ليس فى التاريخ مفردة لو، لكن ماذا لو لم يشرَّع الفرس قوانين الغزو لجيرانهم فى بلاد الرافدين، وبلاد الفينيقيين، ومصر القديمة؟ وماذا لو لم يقلدهم الإسكندر الأكبر ويغزو ثلاثة أرباع الأرض، بما فيها حوض المتوسط؟ وماذا لو لم يفعل الرومان نفس الفعلة الشنعاء ويحولوا الشعوب إلى عبيد؟ وماذا لو لم يخطب البابا أوربان الثانى خطبة اقتصادية بكلمات دينية موجهة للفقراء الفرنسيين، يدعوهم فيها لغزو بيت المقدس حماية للأماكن المقدسة من الكفرة؟ وماذا لو لم تفكر أوروبا فى الاستيلاء على الكرة الأرضية؟ هل كان شكل العالم سيبدو كما هو عليه الآن؟
إن أوروبا الكاملة ضيفة العرب أدركت الإجابة الواضحة بعد الأعوام الألف، كما أدركت أن شعوب شرق المتوسط لا تنطلى عليها الرايات المزيفة، سواء أكانت رايات تنويرية أم رايات دينية. لقرون طويلة كانت أوروبا تؤمن بأستاذية العالم، وعلينا أن نجلس أمامها كالتلاميذ، بما امتلكته من تقدم علمى وفلسفى غير مسبوق، لكننا أنهينا دراستنا، وتخرجنا فى الجامعة الحياتية، ولم نعد موافقين على استمرار عبودية التقدم العلمى، ولم تعد تنطلى علينا رايات الأفكار الخرافية، ونحن فى نفس الوقت لا نرفض المصاهرة الحضارية، أو الحوار الثقافى، أو الاستثمار العلمى. فأهلا بجيراننا بعد ألف عام، إذا جاءوا متخلصين تماما من متلازمة بونابرت.