وأنا أقابله فى الكواليس لأول مرة فى حياتى، أثناء عرض مسرحية الواد سيد الشغال وإتقانه فى تأدية دور المواطن التعبان الصدمان، لم أستطع أن ألغى من تفكيرى كلمات صديقى الراحل مجدى عبد العزيز، الذى كان أستاذا وعلامة فى عالم الكتابة الفنية، وهو يقدم لى بدايات نجوم السبعينيات والثمانينيات، بدءا بعادل إمام، نهاية بأحمد زكى، مرورا بنور الشريف ومحمود عبد العزيز، وكيف أنهم كانوا يفضلون السير على الأقدام من منازلهم حتى مواقع عملهم أو الجورنال لمقابلة الصحافة، توفيرا لنقود الأتوبيس أو المترو، على حسب. وأن هذا الأسلوب أصبح فخرا لهم أثناء سردهم لبدايات مشوار حياتهم الفنية، وبناء عليه أخذت أقيس عدد خطوات عادل إمام من السيدة زينب إلى أخبار اليوم، لمقابلة أساتذة وزعماء النقد الفنى، وأخذ كروت توصية لمقابلة زملائهم فى الأهرام.
فى هذه المرة لم أقابله بصفتى الصحفية، إنما بصفتى ابنة مسئول كبير دعاه ليشاهد مسرحيته، وبما أن أبى كان من عشاق عادل إمام، وكلما أراد أن ينسى همومه أو يضحك، يقوم بتشغيل مسرحية من مسرحياته، ويبدأ فى الضحك قبل أن يقوم صاحبنا بعمل أى خطوة فنية تؤدى للضحك، فمجرد رؤيته لوجهه كانت تبهجه، وهذا ما حدث عندما رصدت لقاءهما الأول وراء الكواليس وهو يفتح له ذراعيه على مصراعيه ويأخذه بالحضن، «كأنه أخوه أو أحد أقاربه، أو صديق مقرب من شلة أصدقاء مهندسى القوات الجوية». وضحكت فى سرى وعادل إمام يبادله نفس المشاعر، لكننى لم أحسه متكلفا، أو متصنعا الحب مثل لقاء النجوم بالمشاهير من كبار المسئولين، فقد أحب النجم الزعيم الذى وقتها لا يزال سيد الشغال، أحب النجم المسئول الكبير، لدرجة أنه نسى مدى حساسية مركز والدى وأخذ يطلق النكات على مبارك، ويقول: هو بيمد لك أمال بيقولوا عليه ليه إنه مش بيفهم! أخذ والدى تلك الكلمات ولم يعلق كأنه لم يسمعها أو لم يفهمها، أو لم يصدق أن النجم تخطى الخطوط الحمراء فى النقد والتنكيت والتبكيت، والتعليق والسخرية، وترديد ما يقوله الناس وقتها. عرفنى والدى بالنجم الشغال فضحك الآخر وعلق أيضا على أكبر رأس، إبراهيم سعدة فى جريدتى وقتها، وقال: أهلا وسهلا يا هانم، إنت بتشتغلى عند وحش الصحافة، ربنا يجعل كلامنا خفيفاً عليه، لو حط الواحد فى دماغه عليه العوض ومنه العوض، ولا تدرى ما هو السبب، وقد يكون سببا تافها أو اختلافا فى وجهات النظر، لكنه بيدفع ثمنه غاليا، ديكتاتور، لكنه لعيب صحافة، مش أى حد، وأخذ يسألنى عن علاقتى به وبأسماء كبيرة هم أساتذتى فى أخبار اليوم، حتى شعر أبى أن الأضواء ستنسحب منه! فضحك وقال لعادل إمام: على فكرة دى بنتى وعاوزة تتعرف عليك، لأنك كبير عليها فى المقام، وأنا قلت: وهنا اضطررت لتهدئة بابا، الذى كان يبالغ أحيانا فى مدحى، متصورا أننى هيكل زمانى! وقام عادل إمام بالتوقيع على صورته وإهدائها لى، ووعدنى وعدا لم يتحقق طبعا، بإجراء حوار معه فى القريب العاجل، فقد كان لعادل إمام وقتها مستشارون صحفيون يفضلون إجراءه للمقابلات مع الكبار، وأنا كنت ما زلت أحبو فى عالم صحافة الفنانين، بعدما تم نقلى من صحافة الكتب والأدب ومقابلة توفيق الحكيم حتى يوسف إدريس فى أقل من عام، فقد بدأت من أول بلاطة فى سلم الصحافة الفنية فى مقابلة الفنانين، ولا أنكر أن علاقة والدى وحبه لعادل إمام، هما اللذان سهلا معرفتى به وتكررت المقابلات على المقهى والطائرة والمسرح. وظلت الصلة ممتدة يتذكرنى حسب المواقف، ولا أنسى بعد وفاة والدى بعدة شهور، أن قابلته على مقهى مصطفى حسين فى المهندسين، وكان يفضل الجلوس فيه، لأنه أسفل منزله القديم، ولأن صديقه مصطفى حسين يوفر له الخصوصية، ولأن رواد ذلك المقهى معظمهم كانوا يحترمون خصوصية الفنان. وإذا به يصرخ عند رؤيتى، ما زلت أرتدى ملابس الحداد، ويقول لى بالصوت الحيانى أمام جمهور المقهى، خلاص يا بنتى اخلعى لبس الأسود، هوه ما حدش أبوه مات غيرك، اخلعى والبسى أبيض وبعدين ده مات شهيد، بكيت يومها وأنا أحتضن كلماته، وقلت له: أنا دائما أميل للسواد فى ملابسى، لكن قلبى أبيض، ضحك وضحكت وضحك معنا وعلىّ رواد مقهى مصطفى حسين، الله يرحمه.