طلب الكاهن من ابنة الأخ مفاتيح الحجرة التى توجد بها الكتب المؤلفة لإتلافها، وطلب من الحلاق أن يقدم له هذه الكتب واحداً تلو الآخر ليرى ما تتناوله، لأنه ممكن أن يجد بعضاً منها لا تستحق عذاب النار.. صاحت ابنة الأخ: لا لا يجب استثناء أى واحد منها، لأنها كلها تسبب الألم، من الأفضل إلقاؤها من النافذة فى الفناء، وعمل كومة منها وإشعال النار فيها، وتم حرق جميع الكتب!! عندما نهض دون كيشوت من نومه وذهب ليرى مكتبته، أخذ يبحث هنا وهناك ولم يجدها فسأل ابنة أخيه.. فقالت: إن ساحرا أتى فى الليلة التى رحلت فيها سعادتك عن هنا ودخل غرفة المكتب وترك المنزل غارقاً فى الدخان... أجاب دون كيشوت “عدوى اللدود الذى يحقد عليّ لأنه يعلم من خلال فنه وكتابه أنه يجب علىّ بعد ذلك أن أتقابل فى مبارزة مع فارس يحبذه، وأنه يتحتم عليّ أن أهزمه دون أن يتمكن علمه من منعي”. هذه الفلسفة بوعى أو بدون وعى فى فكرة التعددية الثقافية كنشاط مبشر لقيمة معلنة نظرياً للتعايش والتناغم الثقافى فى ظل عصر بناء الأمم، وعملياً يحاكى قطاع الأعمال فى إستراتيجيته المعهودة لفك الارتباط. ولا ندرك ونحن على أعتاب ذلك الباب محملون باللا مبالاة لنظرية التعددية الثقافية أننا نفقد حقوقنا فى الهوية والموروثات الثقافية والاجتماعية، بحجة احترام الحرية للوفرة الثرية للثقافات والفنون على الرغم من شعارات الولاء للانتماءات الأصلية !! والحقيقة التى لا ازدواجية فيها أن تلك التعددية تتشكل اختياراتها عن طريق قوى تريد الخلط بين المفاهيم وتزييفها، وتمزج فيما لا يمتزج بشكل مضلل، ومع الوقت وتداخل الهويات سيفقد كل منا ميزة التعاون البشرى والتعايش المجتمعى المتفق عليه وحفظ التراث.. نتيجة لتعدد الاختيارات أمامنا ويموت الضمير الجمعى الأخلاقى، الذى أحدث ترابطا ما بين الجماعات وميزها وخلدها، وتحول لنظام ثقافى انتقائى، لأن البشر حينئذ لن يستطيعوا استبعاد المعايير الإنسانية لجوهرها المتعارف عليه، وستضطر أن تجد بنفسها وكلا على حدة مكانه فى ظل الواقع الجديد.. وعندما نبدى قلقنا فى هذا الزمن المتعثر واللا يقينى، ونسأل أى القيم التى ستغرسها تلك النزعة الثقافية الجديدة؟ نجابه بأن أفكارنا وتخوفاتنا لا ترقى لمستوى اللياقة الثقافية !! وأنها تبادل ثقافات والحل الوحيد لمشكلات العالم الذى يتسم بنزاعاته الغريبة. تخيل معى عزيزى القارئ أن تسعى لحفل موسيقى لتستمتع بسيمفونية ما قد أحببتها، وتركت أثرها النفسى فى وجدانك، وكلما أنصت لها استدعى عقلك مؤلفها ومحيطه وذكرياته وهويته فى تناغم تام متكامل لهذا العمل الفنى، وعلى الجانب الآخر تخيل أن تفاجأ وأنت تعلم تماماً كل ما سبق أن تعزف الأوركسترا لحناً شبيهاً تتنافر الأصوات فيه يعلوه النشاز بين عازفيه ويقال لك هذه رؤية جديدة لتلك السيمفونية!! ستجد نفسك تلقائياً تهرب من هذا المسخ لتسترجع ذلك اللحن، ولو استطعت أن تعزفه لعزفته بالفعل. تقول إحدى النظريات الاقتصادية: إن الضرر الاجتماعى قد يظهر فى مجتمع لم تتوافر له المشاركة فى إعطاء رأيه فى صفقة ما وإذا قربنا الصورة لذهن القارئ كشركة تلقى بنفاياتها فى النهر، تتخلص هى من العادم لديها وتقدم صناعة وتؤذى أفراد المجتمع من جهة أخرى، وتغير من الطبيعة البشرية لتلك المجتمعات بشكل سلبي. لماذا يكون القلق واجباً؟ .. من المنطقى أن نقلق بشأن العواقب لتداخل الهويات الثقافية والفنية والثمن الذى علينا أن ندفعه لاحقاً بشكل قد يفوق توقعنا... شعور الخوف العميق الذى قد ينتاب مثقفينا الذين يدركون قيمة تراث كل مجتمع على حدة فى أن نفقد بشكل ما إنسانيتنا كتداخل البيو تكنولوجيا فى تشكيل البشر، ونفقد تدريجياً جزءا من إحساسنا وماهيتنا التى ظلت ملاصقة لكل عرف مجتمعى عبر التاريخ، تميزه ولا يستطيع مهما تعرض لتحديات أن يفقدها، ولعل أسوأ ما سيحدث لنا مع الوقت نسيان تلك القيمة التى تميز كلا منا ولا نرى أى حاجز قد ينهار، لأن الخصائص المميزة لنا ضاعت ولم نعد نعرف أى جوهر كان يشكل وجودنا ويعبر عنه. أوروبا تحاول جاهدة الآن بعد فشل تطبيقها لنظرية التعددية الثقافية أن تلملم شعوبها وتحارب فى سبيل الإبقاء على لغتها وتقاليدها واستقلالها الثقافى والفنى .. بالطبع هذا لا يعنى الانغلاق، ولكن يعنى التمييز بين “امتزاج الآفاق وذوبانها لتصبح بلا هوية خاصة” و”الانفتاح” بدون أن نفقد معادننا الثمينة والأصيلة القيمة. إن رسالة الفنون فى كل أنحاء العالم، وكما قال”ميلانكونديرا” الروائى الفرنسى العالمى “ رسالة الفن هى حمايتنا من نسيان أنفسنا“. فإدارة الفنون وغاياتها هو بقاء تلك الكنوز فى الشكل الذى وجدت فيه من إبداعات ومعايير لا تخضع أبداً لمرتبة البضائع الاستهلاكية .. فتلك أقصى خسائرنا، والتى قد تتحول بتلاشى الثقافات وربما تدهورها الأبدي. لقد عاشت ورسخت الثقافات والفنون على مدار التاريخ فى ظل كل التناقضات المضطربة، ومحبى الشهرة حتى فى ظل أيدى الرعاة الأثرياء تحاول التمسك بالحياة وطبائعها الخالدة كواقع ذهنى يحمل همه المبدعون والمتلقون معاً لضمان استمراره كرسالة حضارية وأداة لحفظ التوازن المجتمعى ... نرى العالم ويرانا من خلال مرآة كل منا الخاصة به، وحقنا فى التميز والاختلاف وعلينا ألا نقبل بصفقة الاندماج أو الفناء. الإبداعات الثقافية والفنية لا بد أن تجد من حولها مناخاً يشجع ويدعم تقديم الشخصية المحلية والشعبية لتظل وتتصل من جيل لآخر، حتى لا نفقد البوصلة ونتحول إلى “دون كيشوت” حينما أفاق من نومه ووجد كل مكتبته ووثائقه وتاريخه قد أحرق. سيخبروننا بكونها تعددية ثقافية وسيقولون!!! ويقولون!!! وفى النهاية تبقى الصورة والواقع المتغير رغماً عن إرادتنا أبلغ من أى كلام.