«مشرحة بغداد» ناقشت الفلسفة العبثية والتخريب النفسى والقتل على الهوية أثناء الحرب الأهلية 2006 2008 تاريخ البشرية يتناسل فى الخطايا منذ آدم حتى النهاية
فى «غرفة الأخبار» كنت أستقبل أخبار القتل على مدار الساعة
تتعدد اهتمامات ومعارف دكتور برهان شاوى العراقى الأصل الألمانى الجنسية المولود فى عام 1955، وتتنوع، فهو رجل معجون بشهوة التجديد وشبق الإبداع بحثًا عن طزاجة الفكرة وتفردها وريادتها، خاض غمار تسلق جبال الكلمات والأفكار وتقلب وجهه فى سماء التنوع، إلى أن وجد نفسه فى عوالم الرواية الرحيبة التى لا ساحل لبحرها، فصهر فى بوتقتها كل ألوان معارفه السابقة فكانت كوكبًا متميزًا فى أفق نجومه ودرة يعجب لها من يغوص فيها لاستخراج لآلئها.
بدأ «شاوى» رحلته شاعرًا وله عدة دواوين وترجم عن الروسية لشعراء كبار، حصل على درجة الدكتوراه فى الإعلام من ألمانيا، درس التاريخ والعلوم السياسية فى جامعة موسكو الدولية، مارس الصحافة والكتابة الصحفية فى عدة دول، حصل على درجة الماجستير فى جماليات اللغة السينمائية فى موسكو، أسس فرقة مسرحية فى ألمانيا، يكتب السيناريو والنقد السينمائى، صاحب كتاب «وهم الحرية» مفارقات حول حرية الفكر والإرادة.
كان شاهدًا على فترة من أهم الفترات التاريخية فى العراق، من أقواله : إن أمريكا لا تتدخل فى شئون بلادنا بدعوى الوصول بها إلى الحرية، حتى تسلمها لمن يخربها " مؤلف" المتاهات " أطول رواية عربية فى الشكل والمضمون والبناء الدرامى ".. لكل هذه الأسباب وغيرها كان من الضرورى انتهاز فرصة زيارته للقاهرة لتوقيع رواياته التى أصدرتها «دار النخبة» للطبع والنشر لإجراء حوار معه.
سألناه عن حياته فى الشعر لمدة أربعين عامًا؟ فقال: أفرزت سبعة دواوين شعرية، وعن روايتة "الحجيم المقدس"؟ قال: عالجت فيها حياتى فى فترة الجندية.. وعن سلوك الطريق الأكاديمى والدراسات؟ قال: حصلت على الماجستير والدكتوراه.. سألناه عن كبوة الإعلام العربي؟ أرشدنا بعد تشخيص أمراضه إلى كيفية النهوض به، توقف معنا طويلًا عند درة التاج فى أعماله رواية "المتاهات ".. فإلى نص الحوار :
يشكو المبدع العربى من قيود" التابوهات " الثلاثة الشهيرة السياسة والدين والجنس ولكنك استطعت فى مشروعك الروائى الضخم " المتاهات" التخلص من تلك القيود... كيف قررت دخول عرين الأسد لتكتب تجربتك الفريدة؟
الحقيقة أن الثقافة العربية والإسلامية حملت إلينا أعرق النصوص التراثية المليئة بالجرأة والحرية الفكرية فى مناقشة كل الموضوعات والإشكاليات التى نقيد أنفسنا بها الآن دون داع من أى نوع وساعدنا بتفكيرنا هذا الغريب على خلق بيئة خصبة للعنف والإرهاب والجمود والتخلف والتكفير وتفسير النصوص حسب الهوى تخدم المصالح وليس الحضارة والرقى، ومنها إشكالية وحدة الوجود عند محيى الدين بن عربى والسهروردى والحلاج، وذلك ماحرضنا عليه القرآن الكريم "إنما يتذكر أولو الألباب"، أيضًا ترك لنا الأجداد تراثًا عربيًا لنا أن نفخر به و بهم، ففى كتب " عيون الأخبار والبيان والتبيين والأغانى وأربعة كتب للإمام السيوطى والفقيه التيفاشى وغيرهم الكثير مما يصعب حصره " مناقشات وتناول صريح لإشكالية الجنس فى حياة الإنسان، أضف إلى ذلك الكتاب الفريد "ألف ليلة وليلة " طبعة بولاق الأصلية،استفاد به العالم فى بناء حضارته وجعلناه نحن بذهنيات قاصرة بيننا محرمًا. وكذا تحدثوا عن الصراع السياسى والعنف فى كتب كثيرة، أمثال "مقاتل الطالبين والأخبار الطوال" لكن ضيقنا صار واسعًا وتربص بعضنا ببعض، وذلك فى رأيي يعود إلى حالة الحصار الفكرى والثقافى التى فرضناها على أنفسنا، لتفشى الجهل وعدم القراءة والأحكام والتفسيرات السطحية والنفعية للنصوص.. ومن هذا المنطلق المتردى والتخلف الحضارى حرمنا على أنفسنا نعمة التفكير واتساع الأفق وتقبل الآخر بصدق، مخالفين فى ذلك تراثًا عظيمًا لا تمتلكه أمة من الأمم، وعلى المستوى الشخصى أردت أن أسهم بامتداد ولو بسيطاً لما قدمه أجدادنا المفكرون والفقهاء والباحثون والمتأملون، ربما أضفت شيئًا هو ليس بغريب عنهم، وهكذا فأنا لم آت بشيء مخالف، وإن كان جديدًا من منظور التطور الحضارى، وضمنت كل ذلك فى رواية "المتاهات" بأجزائها التسعة، وقد طبع منها بالفعل سبعة أجزاء ويتبقى أمامى إنجاز كتابين حتى تكتمل رؤيتى، التى أردت المساهمة بها فى التعبير عن عصرنا بكل تقلباته.. ولك أن تعجب إن كل أبطال رواياتى " المتاهات " أشخاص حقيقيون وتجارب حدثت بالفعل، وبرغم ذلك خففت من حدة اعترافاتهم وبالطبع غيرت الأسماء والأماكن لتليق بتكنيك فن الرواية.. ما أقصده ليست "المتاهات" بأجزائها التسعة محض خيال مؤلف قابع فى حجرة منعزلة عن العالم، وإنما تفاعل حياتى مع البشر والاقتراب من مشكلاتهم وأحوالهم وأحلامهم بحلوها ومُرها.
لم تقف جرأتك الأدبية عند حدود كسر ما جعلناه محرمًا، لكنك فاجأتنا بتكنيك غير مألوف فى الرواية ذات التسعة أجزاء وتقف الريادة فيه لك وحدك، وهو أسماء أبطالك، فكل الرجال تحمل اسم آدم ثم وصفًا يميزه يتماهى مع الشخصية ودورها، وكل النساء يحملن اسم حواء وإضافة وصف يميزها.. ألم تخش إحداث بلبلة وتشتت وعدم تركيز عند القارئ فيدخل فى متاهة التشابه أو الاستشكال عليه؟
نعم.. فكل الشخصيات الذكور "آدم " والنساء " حواء " وقد بلغت حتى الآن فى عددها 184 حواء و105 آدم وكما قلت سالفًا هى شخصيات حقيقية من لحم ودم، وتعود الفكرة إلى أن تاريخ البشرية يتناسل فى الخطايا منذ آدم حتى النهاية، وإن اختلفت فى الأشكال وفقًا لمقتضيات كل عصر ولكن الجوهر واحد، فالقصص والأفعال متشابهة أيضًا فى الأدب العالمى، المشكلات تتكرر والأسئلة الوجودية والجوهر واحد ولكن الاختلاف فقط فى الألوان.. وهذا الأسلوب أن يكون الأبطال باسم آدم وحواء قد جنبنى أن أدخل فى إشكالية التوصيفات القومية والدينية والجغرافية لهذه الأسماء.. أضف إلى ذلك أن الأسماء بتلك الطريقة جزء من فكرة المتاهة، وأرى أن استمرار القراءة يفك اللغز وحالة الالتباس لتبقى متاهة الأسئلة، وقد ميزت الأسماء بإضافات تخدم دورها فى الروايات، فمثلًا الدكتور آدم التائه، آدم الصالح، آدم رحمه الله، آدم المطرود، آدم الولهان، وهكذا نفس الحال مع الحواءات، فهناك حواء المؤمن، حواء الصايغ، حواء المظلوم، حواء الزاهد، وهكذا لا يخالف تلك الحالة إلا بعض أسماء إفرنجية لتمكن النص الروائى من عدم التقيد بمنطقة جغرافية محدودة، فالأفق الأدبى لنصوص المتاهات باتساع الكون وليس بقعة بعينها برغم أنه اتخذ من العراق نقطة الانطلاق.
يحمل أسلوبك الروائى سحر الصورة السينمائية وبريقها وسلاستها وكأنك تكتب بالصورة، فهل ذلك تأثر خفى فى أعماقك بتجاربك السينمائية والمسرحية واللغة الشعرية التى مارستها طويلًا؟
هذا تشخيص دقيق جدًا، فقد درست السينما وفن كتابة السيناريو والمسرح ومارسته عمليًا، أضف إلى ذلك أربعين عامًا من كتابة الشعر أنجزت فيها سبعة دواوين شعرية ما بين الشعر العامودى التقليدى ثم شعر التفعيلة، حتى وصلت إلى الشعر الحديث بحداثية النص ورحابته، مدلولاته ليسع كل ما يعتلج فى نفس وروح الشاعر، كل هذه المعارف دون شك أثرت بالإيجاب على أسلوبى السردى الروائى، ولكننى لا أتوقف كثيرًا عند بلاغة الشطح الشعرى، وسيلاحظ القارئ أننى أتجنب الأفعال الماضية وأستخدم جماليات اللغة السينمائية للنص السردى، فالفنون يكمل بعضها بعضًا، ناهيك عن أن جماليات اللغة السينمائية مليئة بالطزاجة التى تثرى السرد الروائى.
ترجمت عن الروسية لأربعة من الشعراء الكبار، فهل توحدت وجدانيًا مع ترجماتك لهم أم مجرد إعجاب بثراء تجاربهم فقررت نقلها إلى العربية لإثراء وجدان المثقف العربى؟ الحقيقة أننى لا أترجم إلا مات توحد معه روحى ووجدانى، فقد فتنت بشعراء أربعة كبار هم ماندلشتام وبرودسكى وآخماتوفا وفيسوتشكى، برغم أننى أرى نفسى مترجما لهاو ولا أصنفنى كمحترف، برغم ترجمتى عشرة كتب عن الروسية والألمانية مختلفة، فقد ترجمت تمارين اللياقة الجسدية للمثل، ولغة الفن التشكيلى وأربعة كتب فى علوم الفضاء، وعن الألمانية نظرية الإعلام ألقيتها فى شكل محاضرات، ومدخل فى الاتصال الجماهيرى وألقيتها فى شكل محاضرات أيضًا.. نعود إلى الشعر فأنا أترجم النصوص التى تأخذنى وتبهرنى، لذا يأتى النص قريبًا أو قل متوحدًا مع روحى، بل كنت أتمنى لو أنا كنت كاتبها لجمالياتها وطزاجتها وعمقها، ولك أن تعرف أننى حين انتهيت من ترجمة أشعار برودسكى توقفت عن كتابة الشعر لعدة سنوات، وذلك لهيبة الشعر الأصيل وعبقريته، فهذا الشاعر يجعلك تستحى لدرجة أن تقول إن ما تكتبه شعرًا ! أضف إلى ذلك ما قلت من إثراء المكتبة العربية بأمثال هؤلاء الشعراء الأفذاذ، وبطبيعة الحال يتأثر الإنسان ولو بشكل غير مباشر بما يحب فما بالنا إذا كان ما يحبه رائعًا بشكل مدهش.
ظللت أربعين عامًا تكتب الشعر وأخرجت للمكتبة العربية سبعة دواوين كانت كافية لمشروع إبداعى متكامل، ثم تحولت إلى الدراسات الأكاديمية والحصول على درجة الدكتوراة، ناهيك عن الترجمات العديدة المتنوعة وهى أيضًا كافية لتحقيق شخصية مميزة، ولكنك غصت فى عالم الرواية.. ترى ما السر فى ذلك؟
أنا معجون بعدم الاستقرار الإبداعى، روحى عطشى دائمًا لما هو أرحب والتأمل الدائم والبحث فى علاقات الأشياء والأسئلة الوجودية، وهو وإن كانت حالة ظاهرها المشقة وإنفاق سنوات العمر، إلا أنه البحث الدؤوب عن ساحل لبحر المعرفة الواسع، الذى ما تتوهم الوصول إليه حتى تردك أمواجه مرة أخرى لمزيد من المعرفة، وشهوة المعرفة عندى جذوتها مشتعلة دائمًا، هكذا أنا، وليس ذلك بغريب فالعلماء الكبار أجدادنا أمثال ابن سينا وغيره الكثير كانوا يكتبون فى الطب والتشريح والهندسة والفلك والأجرام السماوية ومحاولة تفسير لغز الوجود والإنسان، بل كتبوا فى السحر على أنه أحد فنون المعرفة، إنها شهوة المعرفة يا صديقى التى هى قدرنا.. والحقيقة عندما رست سفينتى الإبداعية وألقت شراعها على شاطىء الرواية وجدتنى كالمسحور وتدفقت ينابيع فن الرواية داخلى، ووجدتنى سعيدا بها أيما سعادة، عندما رأيت منجزى فيها خصبا ومتميزا يحظى بالتقدير عندى أولًا ثم عند من يقرأونى.. وأعتقد أن السر فى ذلك غير سهولة التناول وبكارة الأفكار هى الأسئلة الكونية التى تدور فى النفس البشرية ولا تجد من يجيب عنها، مثل ماهية الموت وما بعد الموت ووحدة الوجود وسعادة الإنسان وأحزانه وتعاسته وغيرها الكثير من المشتركات الإنسانية.
هل تتفق معى بأن الكتب السبعة أو " المتاهات " التى تم إنجازها وتنتوى استكمالها إلى تسع روايات تعتبر تماهيًا مع تجربة دانتى أليجيرى فى " الجحيم "، كما أعلنتم، هى بمثابة رواية واحدة تتوالد أحداثها وتتناسل فتتكاثر فتكثر بفعل عمق الرؤية واتساع المأساة التى تعالجها لهموم الإنسان ووحشية أقداره، وهى بذلك أكبر رواية عربية وربما عالمية إذ يفوق عدد صفحاتها 6000 صفحة ذات تكنيك جديد فى الشكل والمضمون والبناء الدرامى؟
أتفق معك تمامًا هذا توصيف جيد أوفق عليه تمامًا، ومن الطريف أن البروفسير المغربى دكتور عبد الجليل غزالة أستاذ النقد والخطاب السردى، قد ألف كتابًا اسمه "الحِجاج السردية والتحليل النفسى فى رواية المتاهات لبرهان شاوى"، ولو لاحظنا اسم الكتاب فهو يقول:" رواية المتاهات"، فقد قال بما شعرت به أنت حيال "المتاهات"، وأرى ذلك صوابًا، فعندما انتهيت من رواية متاهة آدم وجدتنى مُساقًا لكتابة رواية أخرى تولدت عنها وهى متاهة حواء وبعد الانتهاء منها وجدت الأشخاص (الأوادم والحواءات وغيرهم) يتناسلون وينتجون أوادم وحواءات، وهكذا جرتنى الدراما الإبداعية والسرد الروائى إلى "متاهة قابيل" وهكذا الحال مع بقية المتاهات.. وليس معنى ذلك بعد الانتهاء من جزء من المتاهات الابتعاد عن شخوصه، وإنما يتسم استدعاء البعض لموقف ما بشكل دائرى وكأنه متاهة داخل المتاهة.
وإن كنت أذكر دائمًا سيرة دانتى أليجيرى، فلأنها كانت نقطة التفجير الإبداعى للرواية عندى، استوقفنى الجزء الخاص ب " الجحيم " بشدة، وتوحدت معه إبداعيًا وكأن بركان الرواية قد تفجر داخلى بعنف أو هو كذلك بالفعل، هذا على الرغم من أننى كتبت قبل ذلك رواية " الجحيم المقدس" وكتب عليها "رواية سينمائية" وقد اعترض بعض الأصدقاء النقاد فى العراق من ذلك التوصيف، لأنه يضيق واسعًا، ولكن ما حدث قد حدث.. ومن ناحية أن رواية المتاهات بأجزائها التسعة بمثابة أكبر رواية عربية وربما عالمية، فهذا مقبول جدًا وحقيقى على الأقل عربيًا، وعالميًا لم أقرأ رواية حتى الآن بهذا العدد من الصفحات، لكن ما يهمنى هو أحداثها وفلسفتها وأسئلتها التى لو لم أفرغها من رأسى لأصبت بالجنون، فأنا أتداوى بالكتابة والرواية بشكل خاص.
شعرت كقارئ لروايات المتاهات: متاهة آدم - متاهة حواء - قابيل - الأشباح - إبليس - الأرواح المنسية والعميان، وهى إن تأسست أحداثها بالعراق فإنها جميعًا تحت ظل خيمة واحدة لسبر غور النفس البشرية بأتراحها المؤلمة وتقلباتها التى تُقهر عليها، هل تتفق معى فى ذلك؟ هذا صحيح فجذور شجرة المتاهات بأفرعها التسعة جغرافيًا مغروسة فى طين العراق، أما أفرعها وظلالها فقد كانت وارفة فغطت جعرافيًا بلدان كثيرة عربية وغير عربية، فامتدت إلى بلدان عديدة فى مصر و دمشق فى سوريا و إيطالياولندن فى بريطانيا وفلورنسا وباريس فى فرنسا والمغرب والجزائر ودول خليجية وغيرها، اتسعت الجغرافيا باتساع الفكرة، فلم أقصد الكتابة عن العراق فقط وما حدث بها من عواصف سياسية واجتماعية وحروب ودمار، حتى انتهى المشهد بالاحتلال الأمريكى فتفجرت كوارس جديدة وحروب أهلية طاحنة،ولكن الفكرة محورها واهتمامها الإنسان فى كل مكان، فمشتركات النفس البشرية كثيرة جدَا، محورها و محركها الكون كله بغض النظر عن الجنسية الكل يعيش المتاهة منذ آدم كما قلت حتى النهاية، والأسئلة تتكرر على مدار التاريخ الإنسانى.
رواية" مشرحة بغداد " برغم أنها ليست من أجزاء " المتاهات " لكنها تحمل نفس فلسفة الشقاء والعبثية والتخريب النفسى الذى حاق بالمواطن العراقى، هل من إضاءة أكثر للقارئ؟
لرواية مشرحة بغداد قصة قدرية عجيبة، بدأت دون تخطيط منى عندما كنت فى روسيا بصحبة زوجتى التى تدرس الطب هناك، واجتاحتنى رغبة أن أدخل المشرحة وسط طلاب الطب وأرى كيف يتم تدريس علم التشريح، ولحسن حظى كانت الأمور ميسرة، وكانوا تسع جثث، رأيت كيف يشقون فروة الرأس وفتح الجمجمة لاستخراج " المخ "، وكيف يقطعونه ليزنوا كل قطعة، وكذا تقطيع القلب لمعرفة أسرار الأمراض وأسبابها ثم شق الصدر، وهكذا وفى النهاية إغلاق الجثة بالخيط، وكنت أتابع بدقة كل شيء برغم الخوف الذى ينتابنى، لأنها المرة الأولى فى حياتى التى أدخل فيها مشرحة، وبعد الجثة السابعة غلبنى الإرهاق النفسى واصفر لونى وساعدونى فى الخروج من المشرحة بروائحها الغريبة، مما جعل البروفيسير يضحك من خوفى وعدم احتمالى.. ثم حدث وعدت إلى العراق فى ذروة الحرب الطائفية فى العام 2006 2007 وكنت مديرًا لإحدى القنوات الفضائية حينها، وكانت الأخبار تأتينى من خلال المراسلين مليئة برائحة الموت الفجة، فكنت أستقبل أخبار القتل على مدار الساعة وبأعداد كبيرة، فعادت إلى مخيلتى من جديد مشرحة موسكو، وفى هذه الأجواء المفعمة بالدماء والأخبار التى تؤكد أن المشرحة فى بغداد ماعادت تتسع لجثة جديدة من الرجال أوالنساء، قفزت إلى رأسى بشدة الأسئلة عن الموت وما وراء الموت فى الأديان جميعا، فالمسلمون يدفنون موتاهم، والهنود يحرقونهم والفراعنة كانوا يحنطون جثث الموتى، وهكذا تتداخل الحضارات ويمكننى القول إن هذه الحالة العبثية فى مشرحة بغداد كانت العتبة أو المقدمة للمتاهات.
وهكذا كان ميلاد رواية " مشرحة بغداد " وفيها استخدمت تكنيك يقترب من التكنيك السردى المخلوط بالخبرى، وكانت الفكرة أن شابًا واسمه آدم الحارس يبحث عن وظيفة فلا يجد إلا العمل فى المشرحة بوظيفة " حارس للجثث "،وذات يوم بعد أحد الانفجارات جاء رجل يبحث أقرباء له، فأخبره آدم الحارس: أنه لم تأت جثث اليوم إلا خمس نساء، وفى مشهد مأساوى مرعب يرى الشاب الحارس، عجبًا حين تنهض الجثث المشوهة أو قل بقايا الجثث لتروى حكايات مرعبة عن الأحياء وكيف قتلوهم، وفى لحظة ما تتسرب الجثث خارجة تمشى بخطوات خشبية جامدة فى الشوارع، لنكتشف أن الجميع موتى بمن فيهم الحارس الذى يجهل كونه ميتًا، وينتظر قدوم أحد ليسأله هل هو ميت أم حى؟ على الرغم من أن الطفل (الجثة) يخبره بألا أحد سيجيبه، لأن لا أحد سيأتى وأنه ميت. فالمشرحة بهذا المفهوم مكان رمزى افتراضى للعراق.. مشرحة الإنسان العراقي.. هى محاولة للحديث عن الأحياء الموتى عن طريق الموتى الأحياء.. وأن الإنسان أصبح مشروع جثة فى ظل الفوضى (الخلاقة) وليس مشروع حياة، هى إذن عبثية الفعل الإنسانى أمام قدره المحتوم.. وهى بذلك كما قلنا عتبة لبوابة المتاهات، حتى إن دائرة المتاهة تدور بسخرية عجيبة، فحين تقتل حواء صحراوى فى جزيرة سكيليا الإيطالية، فمن يحملها هو آدم الحارس القتيل الذى كان بمشرحة بغداد، وتسأله أين أنا الآن يقول: أنت فى مشرحة بغداد !
" على من يزعم أن الله قد خلق العالم ليكون جميلًا، أن يعترف ضرورة بأن الله خلق العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو أنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم"،" متاهة حواء ".. نرجو سبر أغوار تلك الفلسفة والإيضاح أكثر للقارئ؟
الحقيقة إن فى "المتاهات" ضجيجا من الأسئلة والحوارات، الرأى والرأى الآخر المضاد.. أطرح السؤال ولا أترك السؤال يعبر عن رأيى، وإنما أترك الشخصيات تتفاعل وتتنج الإجابات التى ربما تحتاج إلى إجابات أخرى، فالفلسفة ملغزة بطبيعتها والنفس البشرية مليئة بالأغور والكهوف والدهاليز المعتمة فى أحيان كثيرة..ولو كانت الرواية بين أيدينا الآن لفهمنا من سياق الحوار الكثير من الأسرار المخبأة.
هل أردتم برواية المتاهات العملاقة بأجزائها التسعة حفظ ذاكرة الوطن أم هى رسالة للعالم أجمع وما العراق إلا نموذج للمأساة التى تتكرر الآن فى بلدان عربية أخرى مثل سوريا واليمن وليبيا؟ بلا أدنى شك هذا صحيح، فعندما كتب نجيب محفوظ الثلاثية كمثال فهو قد أرخ روائيًا لفترة مهمة فى تاريخ مصر للأجيال التى لم تعشها، لكن هناك نقطة لا بد من إيضاحها، وهو أننى لم آت على ذكر الأكراد سوى فى رواية " الجحيم المقدس " وهى روايتى الأولى، عام 1987وبها تجربتى عندما كنت مجندًا فى كردستان بعد لم أخصص رواية لأى طائفة، فروايتى عراقية إنسانية لا تقترب من أى تشخيص قومى.. وعندما كتبت روايتى " مشرحة بغداد " وإن كانت تفاعلا مؤلما عندما عدت إلى العراق 2006، وكانت الحروب الأهلية والطائفية مدمرة وذات حقد تاريخى بين الطوائف لتدمير وتفجير العراق..وقد كانت على مشارف التقدم الاجتماعى، حفظ الله العراق وكل البلدان العربية. أما بقية إنتاجى الروائى ودرته " المتاهات" فهى كما قلت هى حفظ لتاريخ العراق والذاكرة العراقية للأجيال القادمة فى فترة من أحلك فترات التاريخ العراقي، والرواية بشكل عام تاريخ الشعوب وذاكرة أفراده وجغرافيتها.. والمتاهات رواية واسعة الجغرافيا كما قلنا، فعندما كنت فى لندن وكشفت تناقضات المجتمع الإنجليزى، فأنا ذاكرة لهؤلاء وقد ضمنت ذلك فى رواية "متاهة الأرواح المنسية"، وفى ألمانيا كشفت عن حال اللاجئين ومشكلاتهم أيضًا، يعد ذلك جزءا من ذاكرة ألمانيا، وهكذا فى كل بلد تشعبت إليها جغرافيا وإنسانيًا رواية المتاهات.
ألا تخشى أن تسبب حالة القهر والضياع لشخوص رواياتك نقل عَدوى الإحباط لدى المواطن العراقى والعربى وتشعب أشجار اليأس الجهنمية فى عقله بأن النفق المظلم لانهاية له، فيستسلم عاجزًا مقهورًا فى جحيمها؟
أنا شخصيًا متشائم..لكن لايوجد ظلام دائم، ووصفى للروائى أنه مثل الجراح المتخصص فى الأشياء الدقيقة مثل جراحة والأعصاب والعيون يجب أن يكون شجاعًا، فعندما يصل الطبيب لمنطقة متورمة فالخلاص منها ليس إلا بتفجيرها، تفجير القيح فى الدمامل هو العلاج لاستخراج القيح برغم ألم ما يحدث والروائح الكريهة.. فأنا فى الرواية لا أتحدث عن الورد والعشاق إنما أتناول منعطفات تاريخية حادة وانسحاقا لكرامة الإنسان، فعندما تضغط على رأس إنسان بالحذاء سيصرخ، من هذا المنطلق فإن " المتاهات" تدفع القارئ لطرح الأسئلة وأنا مهمتى هى التحريض على إعمال العقل والتفكير والأسئلة التى ربما لايتقبلها الشخص فى بداية الأمر، لكن تدفعه للتفكير فيها أسئلة عن الروح، ما بعد الموت، عن الله وخلق الكون، كل إنسان حسب عقيدته وعمق تفكيره "فاتقوا الله يا أولى الألباب ".
فى مقالها بمجلة "الناقد العربي" قالت الناقدة العراقية ناهدة جبر جاسم بتاريخ 29/7/2013 مستهجنة أسلوب توظيف حواءات المتاهتات كآلة للجنس قالت: "وما سبب تركيزه على موضوع الخيانة الجسدية، إذ تظهر غالبًا شخصياته النسائية هشة تخون فى أقرب فرصة وموقف.. هل يريد أن يثبت أن الرغبة الجنسية أقوى من كل الموانع الأخلاقية التى تنهار فى أول فرصة تكون معها حواء مختلية مع آدم؟! ".. فما ردكم؟
ناهدة صديقة عزيزة وزوجة صديق عزيز.. هذا رأيها وعليّ أن أحترمه،وقد كتبت مقالها عن الروايات الثلاث الأولى متاهة آدم.. حواء.. قابيل، وأرسلت لى المقال، هى تستهجن خيانة المرأة فى المتاهات، لكن إذا نظرنا بعين الحقيقة فإن تاريخ الأدب العالمى مبنى على الخيانة، فمثلًا الإلياذة لهيموروس مبنية على الخيانة، حرب طروادة التى استمرت 10 سنوات من أجل هروب زوجة ملك الإغريق مع عشيقها..ناهيك عن أن التراجيديا الإغريقية كلها قائمة على الخيانة، القصص فى الأدب السومرى عشتروت وجلجامش،أيضًا أشهر الروايات العالمية قائمة على نساء خائنات مثال: مدام بوفارى ورواية آنا كرنينا التى أخذ الفيلم المصرى " نهر الحب " منها قصته، وعشرات الروايات العالمية مبنية على الخيانة لعدم توافق الأزواج، فالموضوع ليس جديدًا ولا تقصدًا، بل إن بعض الروايات حملت أسماء الخائنات، إن اسم "إيلين " انتشر فى العالم بعد طروادة، وكنت أتعجب كيف لشعوب تقاتل وتسفك دماء شبابها عشر سنوات من أجل خطأ لشابة مراهقة؟!
ناقشت قضية اللجوء السياسى فى رواية المتاهات وبشكل تفصيلى فى " متاهة آدم ومتاهة حواء "، ضعنا فى تلك التجربة؟ وهل من السهل أمام من يرغب فى اللجوء السياسى أن يفعله؟
نعم ناقشتها على لسان آدم المطرود وحواء الصايغ،فاللجوء السياسى ليس بالشيء الهين، فعلى الشخص أن يثبت بدلائل قوية أنه مضطهد فى بلده وحياته فى خطر، وبرغم ذلك هناك من يمتلكون الألاعيب لصناعة تاريخ سياسى لهم كأن يلتقط صورًا فى مظاهرات، وعليه فليس كل طالب لجوء سياسى مقبول، لكن هناك من يزورن تاريخًا مزيفًا لهم، ويتم قبولهم لسبب واحد وهو فضيلة نفتقدها كثيرًا فى الشرق وهو أن الأوروبيين لا يفترضون الكذب فى الآخر.. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهناك ما يسمى باللجوء الإنسانى كمن يشكو من مرض عضال أو عاهة فى بلد لا يتوافر له فيها العلاج فيمنح حق اللجوء الإنسانى، وكذا نوع آخر من اللجوء غير السياسى ،كأن يطلب أحد الأدباء حق اللجوء، فعليه أن يبحث عن اسم معروف فى عالم الأدب لدعمه ليتم قبوله.. قصة اللجوء طويلة وتحتاج إلى موضوعات خاصة بها.
قلت إن فلسفة أمريكا ألا تتدخل فى شئون بلد بدعوى منحه شمس الحرية، ومساعدة الشعوب فى الخلاص من الطغاة حتى تسلمها لأناس من أهلها يجْهزون على ماتبقى منها ويخربونها بأيدهم.... ألا من مزيد فى ضوء شهادتكم على تلك الكارثة الجهنمية؟
لا يخفى على أحد أن أمريكا بلد إمبريالى وإمبراطورية عالمية، وعليه فهى تريد العالم على مقاساتها هى ومصالحها، وإن كانت القضية لا تخص أمريكا وحدها بل كل الدول المنتجة للسلاح، لأنه ببساطة أن الأسلحة من صواريخ وطائرات ودبابات وغواصات وهكذا لا بد لها من استهلاك، حتى لا تتوقف مصانعها، واستهلاكها يعنى إشعال الحروب، فتبحث عن المناطق الهشة المتخلفة المغيبة المتناحرة وتزرع فيها الفتن لتشتعل الحروب ويتم استهلاك الأسلحة، وبطبيعة الحال تبحث عن المناطق الغنية بالطاقة والمواد الخام والإستراتيجية وليس المناطق الفقيرة ولاميزة فيها، فما دام هناك صناعة للأسلحة فمعنى ذلك إشعال الحروب، واستمر الحال هكذا ولن يتوقف حتى تغلق مصانع الأسلحة أبوابها، ولن تغلق.. ولنا أن نعلم أن هذه المصانع هى الداعمة للانتخابات بشكل كبير.
هل هناك ما يبشر بميلاد إبداع عراقى وعربى قوى متميز أم هى مجرد قشور إبداع لا يغنى ولا يثمن من جوع سريعًا ما يختفى بزوال أصحابه؟
بالنسبة لأدباء العراق لا أدعى النظرة الشمولية، فأنا أعيش خارج العراق منذ أربعين عامًا، لكننى متابع فى حدود المقدور، يرسلون لى روايتهم أو عن طريق تقنيات التواصل مثل ال «بى. دى. إف» وهكذا، لكن الملاحظ أن المبدع العراقى كان الشعر لديه هو سيد الإبداع، الآن تراجع الشعر ليحل زمن الرواية بشكل مكثف، فقد أنتجت التجربة الروائية عددا كبيرا قد يصل إلى 600 رواية، وهو إنتاج جيد سواء فى الداخل أم الخارج ويبشر بخير كثير، وأذكر أعمالًا جيدة لأسماء تحضرنى الآن منها حميد العراقى وسلام إبراهيم وشاكر الأنبارى وآخرين وهؤلاء من أدباء الخارج. أما فى البلاد العربية فهناك تجارب جيدة فى الجزائر والمغرب وتونس ومصر والأردن، لكن تيمات التكرار فى الموضوع هو ما يعيبها، فلم تستطع الرواية حتى الآن تجاوز كاتبها، ففى الأدب العالمى روايات استقلت عن مؤلفها، أعنى أن تكون شهرة اسم الرواية أكثر شهرة من مؤلفها مثل " ذهب مع الريح آنا كرنينا وغيرهما " وكما عند نجيب محفوظ شخصيات استقلت عنه مثل "سى السيد"و" زيطة صانع العاهات وحمزاوى فى السمان والخريف وعند الروائى الكبير الطاهر وطار "المجنون" والطيب صالح شخصية مصطفى سعيد في" موسم الهجرة إلى الشمال"، لكن الرواية الحديثة لم تنتج هذا الشكل الذى يتجاوز اسم صاحبه حتى الآن.
يقول البعض إن انتماء العراقيين للعراق هو انتماء زمانى لا مكانى...أى إنهم عراقيون بالزمان فقط، يشتاقونه معنويًا بالغناء ويصفقون لتدبيج قصائد المديح، وإذا وضعوا أقدامهم المغتربة على ترابه عملوا لمصالحهم ومصالح آخرين.. ما رأيكم؟ يذكرنى هذا السؤال بإجابة لمحمود درويش حين يقول شعرًا: " نحن فى حِل من التذكار.. فالكرمل فينا " فالعراق فينا أينما رحلنا، ولكن ما حدث هى تلك الحساسية بين أدباء الداخل والخارج من كانوا يعيشون ويلات الحصار والحروب وبين من يعيشون حياة آمنة فى الخارج، وكان ذلك فى بداية الاحتلال الأمريكى، أما الآن فقد بدأ يتلاشى هذا الحقد والغل والحسد، لسفر بعض أدباء الداخل للخارج، وأقول: إن 80 بالمائة بالداخل هم جمهور هذه الأحزاب، وكثير من الذين جاءوا من الخارج كان مجيئهم بنية مخلصة ولكنهم وجدوا العراقيل، وإن كنت لا أنزه الجميع، وهناك فارق كبير بين هؤلاء وبين من جاءوا " للبزنس" السياسى وكانوا يعيشون فى لندن وإيران وسوريا وغيرهم، وللأسف هم من يحكمون الآن.. وبأيديهم مقاليد الأمور.
فى مشواركم الفنى والشعرى والروائى والإعلامى الكثير من النجاحات، ولكن بالتأكيد هناك إخفاقات فما المواقف الصعبة التى تعرضتم لها ولم يسمح لك الدهر بنسيانها، وكيف كان الخروج منها؟ مررت بأسوأ تجربة إدارية فى حياتى، حين تسلمت إدارة هيئة الإعلام والاتصالات بالعراق فى العام 2009 حتى 2011، وهى الهيئة المسئولة عن منح التراخيص لكل ما هو مرئى ومسموع والفضائيات العراقية والهواتف النقالة، فقد رأيت فيها الذين يعملون أشياء مخزية ويعلنون غيرها، كما يقال كنت فى "المطبخ " والحقيقة برغم قساوة التجربة ألهمتنى تفاصيل كثيرة لرواية " المتاهات " وجعلتنى هذه التجربة بلا أحلام ولا أمل، وتركت العراق بعد تهديدات صريحة، فكما قلت كنت أعرف ما يدار فى الداخل وما يعلن للناس.
هل أصبحت الجوائز الأدبية فى الوطن العربى فاقدة السمعة الطيبة وقد قتلتها التدخلات السياسية والحسابات القطرية؟ وبناء عليه هجرت دف المواهب الصادقة لتنام فى فراش أنصاف وأرباع وأشباه المواهب؟
أنا بطبعى انعزالى لا أحب المشاركة فى مهرجانات، فقط إذا دُعيت للحديث عن أعمالى، وقد كتبت كثيرًا أننى لو أشارك فى مسابقات الجوائز لأن مواصفاتها لا تنطبق عليّ فهم يشترطون اشتراطات مقيدة للإبداع الحر، لذا ظهر هناك من يكتبون أو يفصلون روايات حسب المقاسات والمعايير المطلوبة، وبالتأكيد هناك الكثير من التدخلات تحدث.. أما الفضيلة الوحيدة للجوائز العربية أنها دفعت الناس للقراءة، ويتابعون القائمة الطويلة والقائمة القصيرة، ومن القيود أيضًا عدم المشاركة بالروايات ذات الأجزاء فقط الرواية ذات الجزء الواحد.. وإذا تحدثنا عن أشهر الجوائز الأدبية وهى " البوكر" فهى لا تتعامل مع المؤلف، لكنها تتواصل فقط مع دور النشر وصاحب دار النشر هو من يحدد الثلاث روايات التى يرشحها، يعنى ترشيح ماقبل الترشيح، وقد يكون الناشر غير ملم ولاعلاقة له بفنون كتابة الرواية، أما الجائزة الثانية وهى "كتارا " وهى قسمان منشور وغير منشور، ولك أن تعرف أنه إذا تقدمت إليها 200 رواية منشورة يتقدم 750 رواية غير منشورة، فيزاحم فيها الكاتب الحقيقى الكثير من يفصلون الكتابة حسب المقاس لعل وعسى.. أما الجيد عند كتارا أن لديهم جائزة لمجمل الأعمال وفاز بها كتاب جيدون.
لكم خبرة طويلة بالإعلام دراسةً وممارسة، بما تنصح القائمين على الإعلام العربى خصوصا أنك صرحت: "لا توجد فضائية عراقية يعتمد عليها لمصدر خبرى صحيح"، حتى يمكنهم اللحاق بركب التقدم الحضارى مجنون السرعة والتنوع والتغير؟
بوصفى أستاذًا للإعلام..الحقيقة تقول: إن الحالة لايختص بها الإعلام العراقى فقط وإنما الإعلام العربى بشكل عام،عادة ما يقاس نجاح الإعلام بنجاحه الخبرى الصحيح، للأسف الإعلام العربى لم يصل إلى هذه المرحلة من المصداقية لأن يكون مصدرًا للخبر عالميًا. ولذا فالوكالات العالمية تعتمد على مندوبيها فى بلادنا.. فأنتم فى الأهرام تشتركون فى وكالات أنباء عالمية عديدة.. ولكن من يأخذ منكم؟ هذا هو السؤال..إذا أُخذ منكم يكون هذا هو الخبر.
أما الصحف العربية التى تصدر فى لندن أو البلاد الأوروبية يمكن أن تكون مصدرًا للخبر وذلك لسبب واحد وهو" المحاسبة " وفقًا للقواعد الإعلامية. تنقص الإعلام العربى الحرفية الحقيقية والتنقنية العالية والتكنولوجيا الحديثة للصورة، وأن تبتعد السلطات عن الهيمنة على الخطاب الإعلامى، فليس لدنيا إعلام مستقل بالمعنى، فصاحب رأس المال هو المتحكم والموجه للخطاب الإعلامى. تلك الحالة التى يشهدها العالم الآن من توفر الوسائط لدى رجل الشارع، وإن كانت رديئة مثل " الهاتف المحمول وغيره من مواقع التواصل واليوتيوب " جعلت من منهم " السلطة الخامسة " فكثير من الأحدات والأخبار تحولت إلى قضايا " رأى عام "،أكثر من ذلك هى سلطة ضاغطة، وبالتالى تحصل على دعم جماهيرى، وذلك يخصم من رصيد الإعلام ومصداقيته، فقد تحولت السلطة الخامسة هذه إلى مادة خبرية يتابعها الإعلام وليس العكس، ولأنها قضية رأى عام فلا يمكن تجاهلها.