ذيب وجاسر اليامى اللذان استشهدا خلال محاولتهما إنقاذ طفلين أمريكيين من الغرق بأحد الأنهار الأمريكية، قدما الصورة الحقيقية لما يحمله المواطن السعودى من مروءة ونخوة واستعداد لتقديم المساعدة والنجدة لمن يستحقها، مهما بلغ الثمن، ومهما كان حجم التضحية. كما جسَّدا أروع معانى الإنسانية والتضحية، وقدما خدمة جليلة لبلادهما، لأن الفعل النبيل الذى قاما به لامس وجدان الشعب الأمريكى والعالم قاطبة وقيادته بصورة مباشرة، وأسهم فى تشكيل رأى عام إيجابى عن المسلمين بصورة عامة وأبناء المملكة خاصة، فاستشهادهما خاطب الإحساس الشعبى العام، وأوصل رسالة فى غاية الوضوح، مفادها أن الطلاب المبتعثين ليسوا مجرد أشخاص باحثين عن العلم – رغم نبل هذا المقصد – بل هم أفراد يحملون روحا إيجابية، ويتمتعون بأرقى الأخلاق، ويمتازون بقيم شارفت على الانتهاء عند الآخرين، مثل الشهامة والشجاعة، كما أبانت أن العربى المسلم لا يحمل فى دواخله كرها للآخر ولا ضغينة له، فأى حب أكبر من أن يقدم الإنسان حياته ثمنا لإنقاذ أطفال الغير؟ إن مهمة طلابنا المبتعثين لا تنحصر فى مجرد التحصيل الأكاديمى فقط، بل فى تقديم صورة مشرقة عن دينهم وعن بلادهم، وتشكيل حائط صد ضد الترهات التى يحاول البعض إلصاقها بالدين الحنيف والدول العربية عامة والمملكة بشكل خاص، لأنها كبيرة العرب ومهد الحرمين وأرض الرسالة، فقيام ذيب وجاسر بتلك المهمة أتيا بفعل استحقا عليه الإشادة والثناء. فالرأى العام الشعبى يشكل إحدى أبرز وسائل اتخاذ الرأى فى الولاياتالمتحدة والدول الغربية، وقد تفاعل قطاع كبير من الأمريكيين مع حادثة الغرق مما دعا الإدارة الأمريكية إلى الإشادة بهما بصورة رسمية، وتقديم العزاء لعائلتيهما.
وإذا كانت الدول تنفق مئات الملايين من الدولارات على تحسين صورتها فى الخارج، أو لتصحيح مفاهيم أو أفكار مغلوطة، وتنتظر فى سبيل تحقيق أهدافها فترات طويلة، فإن ما قام به الشهيدان من عمل بطولى اختصر كل ذلك، بل إن تصرفهما الذى تم بصورة عفوية، وكان دافعه الأساسى هو ما تشبعا به من قيم نبيلة وأخلاق إسلامية صحيحة، وما تربيا عليه وتعلماه من تقاليدنا العربية الأصيلة التى تحض على نجدة الملهوف وإغاثة المحتاج، ستكون له آثار إيجابية كبيرة فى المستقبل القريب، لأن غالبية أفراد المجتمع الأمريكى تناقلوا تلك الحادثة بكثير من التعاطف معهما، بل إن مدير الجامعة التى يدرسان بها أعلن عن اتجاه إدارته لإطلاق اسميهما على أكبر القاعات الدراسية فى الجامعة، لتخليد سيرتهما وإبقائها نبراسا للأجيال المقبلة، فأى تكريم لبلادنا أكبر من ذلك؟
وبعيدا عن منطق التعاطف اللحظى أو الانفعال الوقتى فإننى أرى أن من الواجب إعلاء مشاعر الفخر والاعتزاز، فأمثال ذيب وجاسر لا يموتون، بل هما فى جنات الفردوس يحبرون، فالله تبارك وتعالى لم يقل إن من أحيا نفسا مسلمة كمن أحيا الناس جميعا، وجاءت الآية الكريمة شاملة لكل الأنفس البشرية، دون تحديد لديانة صاحبها أو جنسيته أو لونه، لذلك فإن سيرة شهيدينا الرائعة وعملهما البطولى هو مدعاة لأن نرفع رؤوسنا بجميل صنيعهما، وأن نباهى الكون بأكمله بأن البلاد التى أنجبت مثلهما تستحق الاحترام والتقدير وأن تنحنى لها الهامات.
قطعا لسنا ملائكة، ولا ندعى الكمال، ولا نزعم أننا مبرأون من العيوب، فنحن كغيرنا من بنى آدم، خليط من الخير والشر، لكنى أجزم بأن عناصر الخير التى نحملها فى دواخلنا، وما تعمر به قلوبنا من فضائل، وما نحرص عليه ونعتز به من أخلاق وقيم وثوابت كفيل بأن يعكس للآخرين صورتنا الحقيقية. لذلك فإن علينا الاهتمام بتعزيز مثل هذه السلوكيات الحميدة بصورة أكثر فى نفوس أبنائنا الطلاب – لاسيما المبتعثين منهم – وأن يشعر كل منهم بأنه سفير لبلاده ومليكه فى مكان دراسته أو عمله، والمسئول الأول عن عكس تلك القيم وتأصيلها فى نفوس من يتعامل معه. فلدينا الكثير الذى يمكننا استغلاله والاستفادة منه كى نخدم بلادنا ونعلى شأنها.