لعل الكثير لم يقرأ للمؤرخ المصرى الدكتور الراحل «عبد العظيم رمضان» وهو من أهم المؤرخين فى تاريخ مصر، وله مؤلفات عديدة ومعارك عديدة أيضاً مع الأحزاب ورجال الدين، ومن أهم أبحاثه ما سأعرضه عليكم فى هذه المقالة وما يليها من كتابه «جماعات التكفير فى مصر». فى أحد شهور عام 1989 دق جرس التليفون فى منزله، ليطلب منه الانضمام إلى مجموعة العمل البحثى لدراسة حركة الأصوليين فى العالم وكانت تلك المحادثة مع البروفيسور “سكوت أيلبي” من جامعة شيكاغو التى تتبع الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم، وهى مؤسسة علمية عريقة يرجع تأسيسها إلى عام 1780 وتهتم بدراسة كل المواضيع التى تجمع بين الصفة العلمية والعامة مثل الصراعات العرقية والأجناس، ومما استوقفنى فى تلك المؤسسات العلمية البحثية فى الغرب عموماً والولايات المتحدة بصفة خاصة، هو “التمويل” فتلك المؤسسات العلمية لا تمولها الدولة بل مؤسسات خيرية يمولها أموال الأغنياء!!. ولعل موضوع الكتاب الذى سأروى لكم قصته هو ما يثير الريبة، فقد قامت مؤسسة “جون وكاترين ماك آرثر” الأمريكية بتمويل مشروع دراسة حركات الأصوليين فى العالم بكل تفاصيلها الدقيقة التاريخية والمعاصرة والاجتماعية والدينية، لدرجة أنها طلبت من الباحثين وضع تصور مستقبلى للنتائج التى يمكن أن تترتب على وصول هؤلاء إلى مراكز الحكم فى بلادهم والأثر السياسى والثقافى والاقتصادى والتشريعى والاجتماعي!!..
انظر كيف يبحث الغرب ويرتب ولا يترك أى مجال للمصادفة والأهم أن فكرهم كان واضحاً منذ زمن فى التهيئة لقدوم تلك الحركات واجتياحها لعالمنا العربى، وكان هذا المشروع الكبير بقيادة “مارتين مارتي” وعدة أساتذة من جامعات عديدة وعالمية، وكان الوحيد المصرى والعربى فى تلك اللجنة هو مؤرخنا العظيم الراحل د. عبد العظيم رمضان الذى كانت له عدة دراسات عن الإخوان المسلمين والتنظيمات السرية. وبدأ مشواره البحثى هذا مستنداً على أربع قضايا رئيسية، بدءاً من فكر حسن البنا وما تلاه من الفكر التكفيرى لسيد قطب ثم الصراع الأيديولوجى الذى وقع بين الإخوان المسلمين فى المعتقلات، وما تبعه من فكر وضع فى كتاب حسن الهضيبى “دعاة لا قضاة”، وتوغله فى فكر “التكفير والهجرة” وجماعة الجهاد الأولى والثانية التى اغتالت الرئيس السابق أنور السادات وحركات العنف منذ نشأتها وحتى عهد الرئيس السابق محمد حسنى مبارك. ولعل من أبرز تحليلاته ورصده هو حركة تنظيم “أحمد سمن” والهروب من سجن طره، وتنظيم آخر أطلق عليه “السماوية” وجماعة “الناجون من النار” والجماعة الإسلامية للشيخ عمر عبد الرحمن. وتتبعه لكل تلك الجماعات وأثرها على المجتمع المصرى وتغيير خريطة المفاهيم العامة، والسقطة التى طرأت على الأفكار والعادات المصرية والسيطرة المجتمعية لهم حتى داخل شتى المؤسسات للدولة !!. وإبرازه لدور السادات فى مساندة تلك الجماعات الإسلامية التكفيرية فى بادئ الأمر والصدام بينهما ومن ثم بين الأقباط.
ويشرح لنا بسلاسة شديدة أولوية الظهور لتلك الجماعات، منذ إنشائها والمراسلات السرية بينهم وبين السفير البريطانى ولحظات الصدام الأولى بينهم وبين المجتمع المصرى وحتى رجال الأزهر الشريف.
ففى عهد محمد على وإسماعيل والتطورات التاريخية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، والمراحل العديدة بعد الحرب العالمية الأولى والتحول التركى نحو الغرب والأخذ بالتغريب فى الفنون والأدب، واشتداد التيار المتغرب فى مصر، وتمثل ذلك فى نبذ المرأة المصرية للحجاب وإقبالها على التعليم ونزولها لميدان العمل والسياسة، وتنديدها بتعدد الزوجات بل ومناداتها بإلغاء المحاكم الشرعية وأيضاً إقبال الرجال على تلك العادات الغربية فى الأفكار والأزياء والتفكير وظهور التحرر العقلى فى نبذ معظم الأفكار القديمة التقليدية ومحاولة تغييرها للأفضل.
وأثر ذلك الانفتاح الثقافى والتوجه المجتمعى إلى الحضارة الغربية الحديثة إلى إحداث الصراع، فكان لابد من حدوث تلك المواجهة بين تلك الجماعات التكفيرية وبين المجتمع. بالرغم من أنها فى البداية لم تتخذ شكل الصدام مع تلك الحضارة الغربية، بل أخذت جانب تجديد الإسلام على المستوى الدينى والعقلى باعتبار أن التدهور الذى لحق بالمسلمين يرجع إلى ركود الفكر الإسلامي. وأطلقوا العنان لسلطان العقل وتغليبه فى فهم الدين ومحاولتهم التوفيق بينه وبين الانفتاح وتحرير عقيدة المسلم من عقيدة “الجبر” وظهر علماء كثيرون فى ذلك الوقت مثل الشيخ “محمد عبده” الذى دعا إلى إدخال العلوم الحديثة فى الأزهر وإصلاح التعليم وإرسال بعثات لتعلم اللغات الأوروبية والعلوم الحديثة لمسايرة العصر.
ولكن كان من الطبيعى أن يزعج هذا التحول الاجتماعى والفكرى تلك الجماعات وانطلق “حسن البنا” إلى الشيخ “الدجوي” الذى كان على صلة ب”المعسكر الإسلامي” واتفقوا على مواجهة ومقاومة هذا التحلل الأخلاقى كما أسماه!!.
ومن هنا بدأت وخرجت جماعة الإخوان تحتمى تحت ظل شعارات بسيطة مثل الحفاظ على الفضائل والأخلاق والعفاف.. وبالفعل تحقق لها ما أرادت، واستطاعت أن تشد انتباه جماهير الشعب فى عدة مدن مثل بورسعيد، السويس، أبى صوير وانتقلت إلى القاهرة فى أكتوبر 1932 وبعد عام واحد فقط بلغ عدد فروعها إلى 50 فرعاً، وأصدرت أول جريدة أسبوعية لها عام 1933، ومن هنا بدأت الأيديولوجية “الأفكار” المتكاملة الواضحة لسياسة تلك الجماعات تأثيراً بفكر “رشيد رضا” اللبنانى الأصل وكان يعتبر من رواد الإصلاح الإسلامي.. كغلاف خارجى وهالة يحيطون بها أنفسهم!! وإلى أوراق من كتاب “الجماعات التكفيرية” قادمة..