شهر رمضان مدته طويلة... شهر كامل... ثلاثون ليلة أو تسع وعشرون، لذا فإن العابد فيها يتشابه مع العداء فى سباقات الماراثون طويل المسافات، فيبدأ الهوينى على مهل ثم يشد على نفسه بالتدريج، حتى إذا دخل فى العشر الأواخر أطلق لروحه وجوارحه العنان، مغتنما بركات الشهر ملتمسا لليلة القدر، ولا يمنع ذلك من كون أن هناك عبادا ينطلقون من أول يوم بالأعمال الكثيرة والعبادات الشاقة، لكن هؤلاء من كانت العبادة ديدنهم، فهم متمرنون متجهزون لموسم العبادات، فإذا بدأ انطلقوا حتى يصعب اللحاق بهم. فعلى كل مسلم أن يشمر عن ساعد الجد ويطلق لنفسه العنان فى العبادة، مقتضيا بسيده ومولاه مرشد البشرية صلى الله عليه وسلم خير أسوة، فقد روى البخارى ومسلم من حديث عائشة، رضى الله عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر الأواخر شدّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله.. هل هناك نفحات خاصة يتجلى الله بها على عباده فى الشهر المبارك؟ نعم يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، اطلبوا الليلةَ العظيمة التى لا يحرم خيرها إلا محروم، ليلةُ العتق والمباهاة، ليلةُ القرب والمناجاة، ليلةُ نزول القرآن، ليلةُ الرحمة والغفران، ليلةٌ هِيَ أمّ الليالي، كثيرةُ البرَكات، عزِيزَة السّاعات، القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، فما أعظمها من ليلة، وما أجلها وما أكرمها، وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، وألف شهر - عباد الله - تزيد على ثلاثة وثمانين عامًا، فهى عمر طويل لو قضاه المسلم كله فى طاعة الله - عزّ وجل - فليلة القدر وهى ليلة واحدة خير منه، وهذا فضل عظيم وإنعام كريم ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها )، خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) الأمين جبريل ومعه الملائكة الكرام، فما أكرمه من وفد ينير الأرض فى هذه الليلة (سلام هى حتى مطلع الفجر)، لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة من مغرب الشمس وحتى طلوع الفجر. هناك أشياء تقدر فى تلك الليلة هلا حدثتنا عنها؟ ليلة نزول القرآن الكريم قال فيها ربنا جل وعلا: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). وفى هذه الليلة الكريمة المباركة «يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي: يقدر فيها ما يكون فى تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم، فتقدر الآجال والأعمال والأرزاق.. والمراد بالتقدير، أي: التقدير السنوي، وأما التقدير العام فى اللوح المحفوظ، فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صحت بذلك الأحاديث . هل هناك نص بعينه يحدد ليلة القدر؟ هى أرجى ما تكون فيه فى العشر الأواخر منه، لقوله [ : ( تحرَّوا ليلة القدر فى العشر الأواخر من شهر رمضان). وطلبها فى أوتار الشهر مؤكد، لقول النبى [ : (اطلبوها فى العشر الأواخر فى ثلاث يبقين أو سبع يبقين أو تسع يبقين)، وأرجى ليلة من تلك الليالي، هى ليلة سبع وعشرين، لقول كثير من الصحابة: إنها ليلة سبع وعشرون، منهم: ابن عباس، وأُبَيّ بن كعب، وغيرهما، وروى بعض أهل العلم أنها تتنقل فى العشر الأواخر قاله بن حجر، نقلا عن أبى قلابة، ونص عليه مالك والثورى وأحمد وإسحاق ورجحه الشوكانى. لماذا أخفيت هذه الليلة عن البشر؟ قال أهل العلم: أخفيت من أجل أن يجتهد الناس فى العبادات والطاعات، كما أخفيت ساعة الإجابة من يوم الجمعة؟ طوبى لمن نال فيها سبق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصالح سبيل الصالحين، وويل لمن طرد فى هذه الليلة عن الأبواب، وأغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه هذه الليلة وهو مشغول بالمعاصى والآثام، مخدوع بالآمال والأحلام، مضيع لخير الليالى وأفضل الأيام، فيا عظم حسرته ويا شدة ندامته.