فى شهر رمضان يحلو لى منذ سنوات وفى مراحل متتالية من حياتى أن أخلو إلى نفسى، فأشرد مع ذكرياتى، وأسترجع ما مررت به، فى كل مرحلة من مراحل حياتى، من إحباط وفشل، ثم نجاح وتحقق، ثم أمراض وآلام وأفراح. أفكر وأتأمل وألجأ إلى الله خالق المتعة والشقاء، كم ساندنى وكم وهبنى القوة لأتغلب بها، على عقبات ومشكلات الحياة. مصطفى محمود، صديقى ورفيق رحلة علمية ودينية على مدى أعوام طويلة، تعلمت فيها الصبر والصمود والقوة، إزاء ما مررت به من حوادث، فى حين كان يسخر هو من الموت ومن الحياة معا، حيث تغلب على مشكلاته بالإيمان والتفلسف. وكان مدخل مصطفى محمود إلى ذروة الإيمان من خلال العلم، وعلى حد قوله، بدأ بالطب، حيث درس التشريح وتكوين الجسد البشرى، وكيف أن الله أبدع بمعجزاته فى البشر، ثم الفلسفة التى تثير وتعمق كل فكرة، فتقودها إلى الحيرة، ثم الشك، ثم الانغلاق والانفتاح، حتى الوصول إلى الحقيقة، أو الاقتراب منها والتأمل فيها، وأخيرا الفن، فيقول: «اكتشفت منذ طفولتى البعيدة، دون أن أدرى، حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة فى العبارة القرآنية، فحينما تتلو «والضحى واليل إذا سجى»، فأنت أمام شطرة واحدة، هى بالتالى تخلو من التقفية والوزن والتشطير، ومع ذلك فالموسيقى تقطر من كل حرف فيها، من أين؟ وكيف؟ هذه هى الموسيقى الباطنة، سر من أسرار المعمار القرآنى، ولعل المقاطع كانت تتردد فى سمعى أشبه بمقاطع سلم موسيقى «صول لا سى دو رى مى فا»، وكيف لا أحب الموسيقى، والكون كله سيمفونية رائعة، ومن أسماء الله الحسنى «البديع»، وهذا الاسم هو الحاكم على كل الفنون. وفن مصطفى محمود غير قابل للتمذهب، أعنى أننا لا نستطيع أن ندرجه تحت مذهب أدبى معين، أو نطلقه وراء فيلسوف بالذات، فقد استطاع أن يفلسف حياته، ويحيا فلسفته، وأن يتخذ من أزماته النفسية الحادة، فضلا عن تجاربه الحية، مادة لكتاباته، التى هى صدى مباشر لإحساسه بالحياة، إن المفكر والفنان فيه هما شىء واحد. وإذا جاز لنا أن نشابه بينه وبين كاتب آخر من كتاب الغرب، كان ألبير كامو، فهو شاهد على عصره، مثلما كان كامو شاهدا على عصره أيضا، ولا شك أن هذا قد يسلم إلى نوع من الكآبة، كما يبدو فى معظم قصصه، وذلك الحزن الهادئ الخفيف، وكأن كل قصة التفاتة إلى وجه حزين من وجوه الحياة. ومصطفى محمود يعمق مشاعره الوجدانية: بحيث يخرج بها من إطار الرومانسية الضيق إلى موقف شبه فلسفى، من الله والإنسان والعام والعلاقة بينهما. ألم يصرخ بل قصة «انفعال» لمصطفى محمود: «إن الحانوتى يسلب الموت كل هيبة بأن يجعله وظيفة، وكذلك أنا أسلب الحياة بكل كبارتها، بأن أجعلها شغلتى، وهكذا تشل الإرادة، ويسقط الفعل»، وهو ما عبر عنه أحد شخوص مجموعة «رائحة الدم» بقوله: «ماذا أريد من هذا كله؟ حريتى؟ وماذا أفعل بحريتى؟ إننى أرفض طريقا، لأنه يقيدنى، وأفضل البقاء فى مفترق الطرق، أعانى الحرية ولا أمارسها». إن مصطفى محمود يتخذ موقفا وجوديا، يشبه فى كثير من الوجوه الموقف الذى اتخذه سارتر: «لقد قضى علينا بالحرية ولا مفر من ذلك»، لكن ماالمستحيلات التى تواجه الإنسان؟ والتى هى قدره وقدرته فى وقت واحد، ولا بد أن يواجهها بالعلاء عليها، ثم العودة إليها من جديد. وهذه المستحيلات عند مصطفى محمود هى: الإنسان والمجتمع والزمن والتاريخ وروح العصر، وهى الأركان الخمسة، التى أدار عليها رواياته الخمس: «المستحيل»، و«الأفيون»، و«العنكبوت»، و«الخروج من التابوت»، و«رجل تحت الصفر». لقد دخل مصطفى محمود عددا من المعارك فى حياته، ووجهت إليه اتهامات كثيرة، أبرزها: اتهامه بالكفر فى نهاية الستينيات من القرن الماضى، بعد سلسلة من المقالات، وصدور كتابه «الله والإنسان»، الذى تمت مصادرته، وتقديمه بعدها إلى المحاكمة، التى طلبها الرئيس جمال عبدالناصر بنفسه، بناء على فتوى الأزهر، باعتبارها قضية كفر، وقد اكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب دون حيثيات، وإن كان الأمر قد انعكس فى عهد الرئيس محمد أنور السادات، حيث أبلغه إعجابه بالكتاب، وطلب منه إعادة طبعه مرة أخرى، لكنه استبدل به كتاب «حوار مع صديقى الملحد»، لتتوطد بعدها علاقته بالرئيس السادات حتى وفاته سنة 1981، وعندما طلبه السادات ليكلفه بمهام وزارة من الوزارات، اعتذر قائلا: «أنا فشلت فى إدارة أصغر مؤسسة وهى زواجى، فقد كنت مطلقا لمرتين، فأنا أرفض السلطة بكل أشكالها». ونشر مقالاته التى احتوت أفكارا كثيرة، كانت مثار جدل بين المثقفين، كدعوته إلى علم النفس القرآنى، وانهيار الرأسمالية بسبب الترف والغرق فى الملذات، وتأتى الأزمة الشهيرة المعروفة باسم أزمة «كتاب الشفاعة»، التى وقعت سنة 2000، لتثير كثيرا من الجدل، وتتلخص الفكرة فى أن الشفاعة التى سوف يشفع بها الرسول لأمته، لا يمكن أن تكون على الصورة التى يعتقدها المسلمون وفقهاء الشريعة، إذ الشفاعة بهذه الصورة تمثل دعوة صريحة للتواكل الممقوت شرعا، وتدفع المسلمين للركون إلى وهم حصانة الشفاعة، التى ستتحقق لمجرد الانتساب إلى الرسول، وعليه انفجرت الثورة فى وجهه من جميع الاتجاهات، التى تجاوزت أربعة عشر كتابا، تحتوى ردودا قاسية عليه. ومع كبر سنه، وضعف صحته، أدت هذه الأزمة إلى اعتزاله الحياة الاجتماعية وامتناعه عن الكتابة، إلا من مقالات محدودة فى جريدة «الأخبار»، ثم أصيب سنة 2003 بجلطة فى المخ أثرت على الحركة والكلام، ثم تحسنت حالته مع استمرار العلاج. ورأى مصطفى محمود أن يوقف جزءا كبيرا من حياته فى مشروع اسمه «العلم والإيمان»، يأتى فى ثمانية كتب، وحينها جاءته فكرة البرنامج التليفزيونى، الذى حمل الاسم نفسه، وكان تنفيذها على أرض الواقع غاية فى الصعوبة، فقد عرضها على التليفزيون المصرى، فاعتمد له المسئولون ثلاثين جنيها مصريا فقط للحلقة الواحدة، فى حين أن البرنامج يستلزم السفر إلى الخارج، ومتابعة آخر البحوث، ومن ثم بدأ اليأس يتسرب إلى نفسه، حتى قابل رجل أعمال شهيرا، فحدثه فى أمر البرنامج، فإذا به يخرج دفتر الشيكات قائلا له: «لن أناقشك فى النفقات، لكن المهم خروج هذا العمل العلمى والدينى إلى النور»، ولاقى البرنامج نجاحا كبيرا، واجتذب جماهير كثيرة، نظرا لأسلوبه الذى جذب عقول البسطاء قبل العلماء. وبرغم هذا النجاح، فوجئ مصطفى محمود بعد سنوات، بإبعاد هذا البرنامج الجماهيرى الناجح عن خريطة التليفزيون المصرى دون إبداء الأسباب، وفى هذه الأثناء جاءه رسول موفد من رئاسة الجمهورية، ليأمره بالكف عن الكتابة نهائيا، وكان وقتذاك يكتب مقالا أسبوعيا فى جريدة الأخبار، حيث اشتهر بهجومه المتواصل على الصهيونية، حيث كان يرى أن اليهود هم وراء هذه الشبكة الأخطبوطية للفساد والإفساد فى العالم كله، الأمر الذى استلزم معه وجود حارس دائم بباب منله، لعدة سنوات، بتكليف من وزارة الداخلية، لحراسته بعد التهديدات التى تلقاها. واحتجب مصطفى محمود عن الأنظار، وأصيب بالاكتئاب الشديد، ثم مرض، وفقد ذاكرته، وكنت أداوم على السؤال عنه لفترة طويلة، وخلال مرضه الأخير، كتبت مقالى فى مجلتى «الشموع»، وأصدرت عددا خاصا منها، ضم دراسات ومقالات لأهل الفكر والنقد والأدب عن مصطفى محمود، لأذكر بفضله، متعجبة من إقصائه وإهماله، ثم أصدرت كتابا خاصا عنه، صدر فى طبعتين متتاليتين من سلسلة «كتاب اليوم» التى تصدرها مؤسسة أخبار اليوم بشكل شهرى، وهو الكتاب الذى انتحلت معظم فصوله، ونقلها كثيرون دون الإشارة إلى المصدر، وكأن الانتحال صار سمة أهل الزمان.