انشغلت الصحافة الثقافية العربية منذ اندلاع الثورات الأخيرة بالسؤال عن دور الأدب في الثورة. وبدت الإجابات في كلّ مرّة تحاول أن تقترب من واقع الحال مقابل هاجس الإبداع. فالثورات، كما بدت لكثيرين، ضرورية كالهواء والماء لأنّها قامت ضد احتكار السلطة، وضد احتكار المال العام سواء تمثل بثروات تحت الأرض أم ما فوقها، إلى جانب احتكار الرأي وقمع حرية التعبير، كما بدت هذه الثورات لبعضهم غير ذلك، فلم يبالوا في سفك السلطات لدماء الناس الخارجين ضد استبدادها، وناصروا دعواها المشككة والمزيّفة لمطالب الثائرين عليها. مع هذا، وفي ظل هذه التحولات بقي عدد من الكتاب والناشطين السياسيين اليمنيين يستغربون موقف بعض الأدباء والفنانين من التحولات التي جرت خلال العام الماضي، واعتبروهم أشباه خونة أو، على الأقل، متخاذلين وقصيري نظر في مواقفهم شبه المحايدة أو المراقبة للأحداث بدون الاشتراك فيها. ومضت الأيّام والشهور، وبعد أكثر من عام، تراجع بعض هؤلاء عن مواقفهم التخوينية وأعلنوا خيبتهم من نتائج الثورة المنشودة التي كافحوا من أجلها إلى حد الهوس، لكنهم نسوا أن يعتذروا من الذين هاجموهم وشكّكوا في نياتهم. في الواقع، لم يبتعد الأدباء والفنّانون عن الأحداث تماماً في اليمن فقد كانوا جزءاً منها سواء شاءوا ذلك أم لم يشاءوا، فأصوات الرصاص والمدافع والتفجيرات وصلت إلى أذن كلّ يمني، ناهيك عن الانقطاع شبه الكلّي للماء والكهرباء في معظم المدن اليمنية ولما يزيد على السنة، مما أصبح اليمن، ربّما، أكبر مستورد للشموع من المصانع الصينية. لهذا لم يكن هناك من وقت للكتابة الأدبية، أو حتى الادعاء بالمحايدة والمراقبة لما يجري من بُعد؛ فإذا لم يعلن الأدباء والفنانون مواقفهم في الصحافة والإنترنت سُمعت أصواتهم الغاضبة من غرف منازلهم أو من المقاهي ودواوين (القات)، أو بان ذلك في وجوههم وملابسهم وأشكالهم الفاقدة للماء والاطمئنان. وإذا كان من البديهي هنا القول بحق الأديب أن يعبر عن موقفه بالطريقة التي يراها، بما في ذلك الصمت؛ كأن ينحاز إلى الثوريين، أو لا يتفق معهم على صيغة شكل التحول، أو أن يشكك في مسارات هذه الثورات، إلا أنه يمكن القول إن موقفه هذا سيكون أكثر أهمية إذا جاء من نظرته الفنية الخاصة، لا من زاوية نظر السلطة أو وجهة نظر الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها، فاتخاذه مسافة بينه وبين الأحداث، لحساسيته الثقافية، قد يأتي برأي مهم ومميّز عن تلك الآراء الجمعية. وربّما يكون موقفه بمثابة اختبار أوّل لديمقراطية سلطات هذه الثورات وخشية معلنة من أن تتحوّل إلى سلطات قمعية وديكتاتورية، كما حدث مع سلطات ثورية كثيرة في التاريخ. ومع هذا، لا أظن أن المواقف السياسة الآنية هذه للأدباء والفنانين قد تنعكس بشكل جيد على مستوى ما ينتجونه من أعمال أدبية وفنية. فما أنتج عبارة عن تعبيرات تحريضية سياسية، فالأشعار الشعبية، بالفصحى أو العامية، والكاريكاتير والملصقات التشكيلية والتمثيليات القصيرة الساخرة والأغاني التحريضية يمكن إدراجها ضمن فن الملصق السياسي، وهي بالتالي لا تصل إلى مستوى إنتاج اللوحة الفنية، وإن كانت تحمل صفتها. هكذا، لم تعد محقّقة المقولة الأيديولوجية التي تشير إلى أن من يتخذ موقفا ضد ثورة ما ليس مبدعاً؛ فهناك في التاريخ الأدبي والفني، العربي والعالمي، ما يؤكد أن بعض الأدباء والفنانين أنتجوا أعمالا متميزة على الرغم من علاقاتهم الوطيدة بسلطات استبدادية، أو أنهم كانوا ضد ثورات وسلطات اتصفت بالثورية. إذ المسألة ظلت تتعلّق بالمستوى الفني للنص وبحساسيته الإنسانية التي قد لا تماثل حياة أو سلوك الكاتب. *روائى يمنى