النقد العربى يعانى تخمة التفكير فى المنهج على حساب النص المنقود
الجائزة هى التعبير المادى المحسوس عن التقدير الذى تحظى به أعمال الكاتب
عبر الناقد والأكاديمى المغربى الدكتور محمد مشبال الفائز بجائزة الشيخ زايد فرع «الفنون والدراسات النقدية» عن فرحته بالجائزة، حيث يواصل «مشبال»، انشغاله النقدى فى توسيع مفهوم البلاغة وإخراجها من حيز «نظرية الأسلوب» الذى سُجنت فيه، إلى مجال تصبح فيه «نظريةً للخطاب عبر استثمار ما ينطوى عليه المنجز البلاغى العربى والإنساني، من أدوات ومفاهيم ومبادئ توسع مفهوم المقاربة البلاغية لتشمل بتحليلاتها كل الخطابات التخيلية الأدبية والحجاجية التداولية. وأضاف أن النقد العربى يعانى منذ فترة تخمة التفكير فى المنهج على حساب النص المنقود، قليلة هى الدراسات النقدية العربية التى تفلح فى التواصل مع النصوص الإبداعية كاشفة عن أسرارها الجمالية ورؤيتها التى تنطوى عليها. كيف استقبل الدكتور محمد مشبال خبر الفوز بجائزة الشيخ زايد، فرع «الفنون والدراسات النقدية»؟ استقبلتها بالفرح، لأن الشخص الذى يشتغل بالقراءة والكتابة فى المجال الأكاديمى محكوم باعتزال الناس والابتعاد عن لحظات الابتهاج الجماعية فى معظم أوقاته. إنه مجبر على أن يعيش حياة صارمة ومنضبطة إذا هو قرّر أن ينجز أعمالا حقيقية قادرة على أن تفرض نفسها على القارئ المتخصص فى العالم العربي. إنها لحظة فرح تقاسمناها جميعا أنا وعائلتى وطلبتى وأصدقائى وزملائي. الجائزة هى التعبير المادى المحسوس عن التقدير الذى تحظى به أعمال الكاتب؛ إن من مظاهر قيمة جائزة مهمة مثل هذه الجائزة هى لحظة الفرح المشتركة التى تخلقها. هل كنت تتوقع الفوز بالجائزة؟ هذه السنة لم أتوقعها، عكس كل من قرأ كتابى الفائز وعرف كتاباتى وتابع مسيرتى العلمية، السبب فى ذلك أن كتابى «خطاب الأخلاق والهوية: مقاربة بلاغية حجاجية لرسائل الجاحظ» الذى وصل القائمة القصيرة السنة الماضية فى الجائزة نفسها (2017)، توقعت له الفوز لخصوصيته وارتباطه بالثقافة العربية، ولصعوبة إنجاز تحليلات دقيقة لنصوص الرسائل فى أربعة أجزاء أو مجلدين ضخمين. ولكننى فى قضية الجوائز أنطلق من قاعدة تريحني: للجان التحكيم معاييرها فى التفضيل بين الكتب، وعليك أن تفترض أيضا أنه مثلما أنك تكتب بشكل جيد، فهناك من يكتب أفضل منك. وبناء على هذا الافتراض ما عليك إلا أن ترفع من مستواك، وتمضى فى مشروعك، لأن الهدف ليس الحصول على الجوائز ولكن إنجاز أعمال ترضى عنها. هل الفوز بها وضع على كاهلك مسئولية أكبر خصوصاً فى أعمالك المقبلة؟ عندما كرمتنى كلية الآداب جامعة القاضى عياض بمراكش العام الماضى (2017) قلت فى ختام كلمتى التى ألقيتها بالمناسبة، وقد استبدت به الحماسة والانفعال: هناك مشبال قبل التكريم، ومشبال ما بعد التكريم. ما أستطيع قوله لك، الآن وبعيدا عن أى موقف انفعالي، هو أننى ماض فى مشروعى العلمي. لأن الهدف الأسمى الذى وضعته أمامى منذ أن اخترت الانخراط فى التأليف، هو أن أسهم فى بناء الثقافة العربية الحديثة وتحظى كتبى بالتقدير العلمي. ماذا عن كتابك “فى بلاغة الحجاج: نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطاب” الفائز بالجائزة؟ هو كتاب يقدم للقارئ العربى تصورا لتحليل الخطابات التواصلية الإقناعية من منظور البلاغة الحجاجية (تمييزا لها عن البلاغة الأدبية)، أى البلاغة التى أرسى قواعدها اليونان والرومان وطورها شاييم برلمان وأتباعه فيما سمى بالبلاغة الجديدة، وأيضا البلاغة فى امتداداتها المعاصرة مع باحثين ومنظرين وسّعوا هذه البلاغة الجديدة ومنحوها آفاقا جديدة. هذه البلاغة الحجاجية لا نعدمها فى تراثنا البلاغي، ولكن يبدو أن انشغال هذا التراث بالشعر والقرآن الكريم حجبا عنّا رؤية محتواها الحجاجي، وتكرّس ذلك فى البلاغة العربية الحديثة وخصوصا البلاغة التعليمية التى حصرت هذا الحقل المعرفى الغنى فى وصف محسّنات الخطاب. هذا الكتاب هو محاولة لإظهار التوجه الحجاجى للبلاغة برؤية تركيبية مفصلة وشاملة، رؤية تستوعب جميع الاتجاهات البلاغية الحجاجية من أرسطو حتى اللحظة الراهنة. ما الجديد الذى يقدمه الدكتور محمد مشبال فى هذا الكتاب؟ الجديد فى الكتاب فى تقديرى هو تقديم النظرية البلاغية فى سياق تركيبى ينطلق من إشكال دشنته منذ أول كتبي: مقولات بلاغية فى تحليل الشعر (1993)، وهو البحث عن منهج بلاغى لتحليل الخطابات، فى هذا السياق كان كتاب: بلاغة النادرة (1997) وبلاغة السرد: جدل الحجاج والتخييل فى أخبار الجاحظ (2010) وخطاب الأخلاق والهوية: مقاربة بلاغية حجاجية فى رسائل الجاحظ (2015) ودراسات وترجمات أخرى تحاول أن تجتهد لتحليل بلاغة السرد الروائى الحديث. يمكننى القول إن جدّة كتاب “بلاغة الحجاج”(2017) تكمن فى أنّ المادة المعروضة قُدّمت من منظور باحث معنى بإشكال تحويل البلاغة إلى منهج لتحليل الخطابات الإقناعية المختلفة (الخطبة السياسية والموعظة الدينية والخبر السردى والنادرة والوصية والدعاء والمناظرة) لأجل ذلك مزج المؤلف فى كتابه بين النظرية والإجراء. ما أهمية أن يكون لدى الكاتب مشروع يعمل على تحقيقه؟ المؤلف الحقيقى ينبغى أن يكون صاحب مشروع، فهو لا يكتب تحت الطلب ولا يسخِّر قلمه لتحقيق مكاسب مادية؛ إبداعه الحقيقى فى اختراع فكرة وتنميتها بالبحث وخلق سياق ثقافى حيوى لها؛ فأهمية أن يكون للباحث مشروع تعنى قدرته على خلق مجال للبحث، وتلاميذ يطورون المشروع ويضيفون إليه ويسدون ثغراته. المؤلف لا يكتب لنفسه، وإنما يكتب ليطور المعرفة. ومن هنا ينبغى أن نحتاط فى وصف أى مؤلف بأنه صاحب مشروع فكرى أو نقدى أو بلاغى أو لسانى أو سيميائي. وما مشروعك النقدي؟ مشروعى منذ ثلاثين سنة هو تطوير البلاغة وتحويلها من معرفة بقواعد تحسين الخطابات، إلى معرفة بتحليل الخطابات التى ينشئها أصحابها لأغراض تداولية عملية أو تخييلية أدبية. ويقوم تصورى على أن البلاغة هى أقدم معرفة بالخطابات اكتشفها الإنسان، واشتغل بها أسلافنا العرب ودعموا بها علومهم المختلفة. كيف أثر تخصصك الأكاديمى على تفكيرك ووعيك وحياتك الخاصة؟ لقد أثر فى تأثيرا بالغا؛ فأنا أجد صعوبة على سبيل المثال فى إنتاج مقالة نقدية صحفية بمفهومها النوعى الدقيق عن رواية أو ديوان شعرى أو مجموعة قصصية، هناك من ينجح فى ذلك مثل محمد برادة وفيصل دراج على سبيل المثال، كما نجح قبلهما شكرى عياد وعلى الراعى وغيرهما. أحاول قدر الإمكان أن أسبغ على كتاباتى الأكاديمية الدقيقة سمات تقربها من القارئ غير المتخصص وتخرجها من الطابع الأكاديمى إلى رحابة الكتابة النقدية التى أتقنها بعض النقاد الكبار بشكل خاص، ولكن لا أظن أننى أفلحت حتى الآن فى تحقيق ذلك إلا فى بعض الكتب مثل: “بلاغة النادرة” و”الهوى المصرى فى خيال المغاربة”. هل يعانى النقد فى العالم العربى أزمة منهج؟ ربما يصح القول إن النقد العربى يعانى منذ فترة تخمة التفكير فى المنهج على حساب النص المنقود، قليلة هى الدراسات النقدية العربية التى تفلح فى التواصل مع النصوص الإبداعية كاشفة عن أسرارها الجمالية ورؤيتها التى تنطوى عليها. معظم ما ينشر من كتابات نقدية هى رسائل وأطروحات جامعية لها طابع البحث الأكاديمي، وهى عادة لا يقرأها سوى المتخصصين يتخذونها مراجع لأبحاثهم. وأما النقد الذى ينشر فى إضاءة أعمال أدبية وتقييمها، فمشكلته أنه نقد يعانى مشكلات أخرى، كأن يتصدى النقاد لنصوص معينة على حساب نصوص أخرى، والتسرّع فى الكتابة وغيرها من المظاهر السلبية التى يعانيها هذا النقد لأسباب مختلفة؛ لعل أهمها أزمة الثقافة العربية المعاصرة التى لا يمكن فصلها عن أزمة المجتمعات العربية على جميع الأصعدة. يرى البعض أن العرب لم ينتجوا حتى الآن نظرية نقدية معاصرة، بل استوردوا النظريات جميعها من الغرب. بما تفسر البحث عن نظرية عربية نقدية خالصة، وما العوائق التى تمنع من هذا من وجهة نظركم كأستاذ للنقد؟ إذا استثنينا العلوم العربية القديمة التى كانت نتاجا أصيلا مرتبطا بالسياق الثقافى العربى الذى لم يكن بالطبع معزولا عن الثقافات الأخرى، فإننا منذ عصر النهضة انقسمنا إلى فريقين؛ فريق يقدس الماضى ويجترّه، وفريق يستعير الثقافة الغربية بشكل يكاد يكون بعيدا عن أى اجتهاد. للحديث عن نقد عربى إذا كان ذلك ضروريا - فالمطلوب أن يكون هناك اجتهاد فكرى فى كل حقول العلوم الإنسانية: الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات وعلم السياسة.. وأن يعبر هذا الاجتهاد عن الوضع الاجتماعى والسياسى للإنسان العربى فى هذه المرحلة التى يجتازها تاريخنا. فى تقديرى أنه من الصعب أن نتحدث عن نقد عربى إلا على سبيل نسبة إنتاجه إلى نقاد عرب. من الأفضل فى تقديرى أن يجتهد النقاد العرب فى تطوير المعرفة النقدية الإنسانية بدل حديثهم عن سراب بعيد المنال. إلى أى المدارس النقدية تنتمي؟ يمكنك أن تقول إننى أنتمى إلى حقل البلاغة التى أسعى منذ فترة إلى أن أجعلها حقلا تلتقى فيه عدّة اختصاصات: النقد الأدبي، والأسلوبيات، وتحليل الخطاب، والتداوليات، والسرديات..هذا الحقل هو اجتهاد أحاول ترسيخه بتحليل النصوص الإبداعية، وفى هذا السياق أنجزت عدة دراسات على نماذج روائية عربية، منها رواية “إلياس” للكاتب المصرى أحمد عبد اللطيف، ورواية “رسائل زمن العاصفة” للكاتب المغربى عبد النور مزين، وروايات أخرى. أما تحليل النصوص الأدبية القديمة أو النصوص ذات الوظيفة الإقناعية بشكل عام، فإن البلاغة بما هى نظرية فى الخطابات الناجعة، تصبح هى الأداة الملائمة. هل من حق الناقد أن يرى فى النص ما لا يراه النص ذاته؟ العلاقة بين النص والناقد ينبغى أن تكون علاقة تفاعل، فالنص يعيد صياغة الناقد، والناقد يعيد صياغة النص. وما ينتجه الناقد فى عملية التفاعل هذه، لا تستطيع أن تصفه بأنه يحمّل النص ما لا يحتمل، كما لا تستطيع أن تقول إن النص يتحكم فى الناقد تحكّما مطلقا. لأنه لا يمكننا الادعاء أننا ننصت للنص إنصاتا موضوعيا، فليس هناك هذا الإنصات الموضوعي. كلّ إنصات للنص يكون محمّلا بذخيرة ثقافية توجه الناقد فى اختياراته وتأويلاته وأحكامه. يرى البعض أن الإبداع العربى تفوّق كثيرا على النقد العربي؟ إذا حصرنا النقد فيما ينتجه النقاد من دراسات نظرية أو تطبيقية عن الأعمال الأدبية التخييلية المعاصرة، فهذا الحكم صحيح. فقد تراجع النقد بالقياس إلى الإبداع لأسباب عديدة؛ لعل أهمها عزوف شديد عن قراءة النقد، هناك سوء ظن بالنقاد حتى من المبدعين أنفسهم، مما نجم عنه توجّه عديد من هؤلاء إلى الكتابة الإبداعية بحثا عن المجد الأدبى وعن الجوائز والحضور فى الملتقيات الثقافية الكبرى فى العالم العربي. لكننا لو وسعنا دائرة النقد الأدبى ليشمل البحث فى البلاغة وتحليل الخطاب والتداوليات وغيرها من الحقول التى لا تتعامل مع النص التخيلى بالضرورة، فإننا نستطيع أن نقول إن هناك نشاطا مهما تشهده الأبحاث والدراسات التى تتخذ من جميع أنواع الخطاب التى ينتجها المتكلمون موضوعا لها. وأنا أرى أنه آن الأوان لكى نوسع دائرة النقد خارج الأعمال التخييلية، لأنه لم يعد هناك مسوغ لهيمنة هذه الأعمال على الدرس. فكل ما ينتجه الإنسان العربى من خطابات فى حياته، جدير بالاهتمام لأننا فى النهاية نروم فهم وتطوير وجود الإنسان فى هذا العالم. كيف ترى واقع الرواية العربية ومستقبلها؟ أنا متفائل بما يحصل فى حقل الإبداع الروائي، لأن الإقبال على الكتابة الروائية، والاحتفاء بالروائيين بواسطة الجوائز ودعوتهم إلى معارض الكتب وتوقيع أعمالهم فى المكتبات واستقبالهم فى المدارس والجامعات، ظواهر جديرة بخلق تنافس حقيقى فى هذا الحقل. لأجل ذلك أتوقع أن يظهر جيل مبدع قوي، بشرط أن تحرص المؤسسات الثقافية والإعلامية والنقدية على الانتصار للإبداع الحقيقي. ما الحد الفاصل بين التناص والسرقة الأدبية؟ التناص أدب وإبداع وخيال خلاّق، أما السرقة فإنها قلّة أدب وسوء أخلاق وبؤس فى الخيال. مفهوم السرقات الأدبية - وهو باب من أبواب البلاغة العربية القديمة - يدخل فى مفهوم حوار النصوص أو التناص ولا علاقة لها بالسرقة بمعناها الحرفي، لأنه لا وجود لإبداع من فراغ، كل نص ننتجه هو حوار ضمنى مع نص أو نصوص سابقة، والمبدع الحقيقى هو الذى لا يكف عن الحوار مع النصوص ويبتدع الطرائق التى يُجرى بها هذا الحوار. ما جديدك خلال الفترة المقبلة؟ هناك كتاب قيد الطبع عن بلاغة الرواية، وهناك مشروعات أخرى لن ترى النور قريبا، لأنها أعمال تستغرق وقتا طويلا وتستنزف جهدا كبيرا. والآن أنا مهتم بإنجاز أعمال جماعية فى فرقة البلاغة وتحليل الخطاب التى أنسق أعمالها فى كلية الآداب بتطوان المغرب. والأهم فى المشروعات الجديدة هى إنجاز أعمال مشتركة مع جامعات عربية، مثل جامعة القاهرة وجامعة جربة فى تونس.