أنت تجلس فى مقاعد المتفرجين تنظر إلى خشبة المسرح وترى الممثلين يجيئون ويذهبون ويؤدون مشاهدهم التى كتبت لهم وفى بعض الأحيان أو أغلبها تكتب بدقة بالغة لممثل دون غيره!! هذا ممثل بارع يجيد الالتحام مع شخصيته على الأوراق ويقنعك وقد تصدقه لدرجة أنك تعيد التفكير فى مبادئك وثقافتك الراسخة عبر سنين وتتبعه مهما كلفك الأمر حتى لو اكتشفت أنك كنت مخدوعاً لزمن طويل!. وهذا ممثل فاشل تنفر من أول وهلة لظهوره وتكتشفه وتتركه لتمضى وأنت ما زلت محتفظاً بكامل ثوابتك. هكذا هو عالم السياسة! فالدساتير التى توضع بتفاصيلها الدقيقة القانونية، لتسن الأنظمة والمعاملات والعقوبات ليست ملزمة بالواقعية على الأرض!. فالهدف الأساسى هو المحافظة على السلطة فى أى نظام، ولكى يتحقق هذا الهدف لا بد من توفير قوى سياسية ليصبح الحكم ذا فاعلية واستمرار مهما كان أوضاع مجتمعات تلك الدول تبقى القوى الكامنة غير معلنة. لقد أتفق الأمريكيون والبريطانيون «فى ظاهر الصورة» وما أدراك من يقف خلف الستار! على معالجة شئون الدول الإفريقية والآسيوية من خلال منظومة تحمل فى بوتقتها كل المخالفات والممارسات اللاأخلاقية من خلال «لعبة الأمم». الذى لا أدرى دوافع مؤلف ذلك الكتاب الذى يحمل اسم ذات اللعبة «مايلز كوبلاند» وتم إصداره فى عام 1969 ليفضح لنا عالماً ويفتح باباً سرياً نطل منه على أخطر مؤامرات قادتها وزارة الخارجية الأمريكية واختراقها لأنظمة الحكم العربية وفضح كثيرين من الحكام ونماذج سياسية كانت ترتدى أقنعة الشرف. ومما يثير الدهشة حقاً أن مايلز كوبلاند هو ضابط سابق فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وهو أحد اللاعبين الأساسيين. أدرك بالطبع لماذا اشترك فى تلك المؤامرة، ولكن لا أدرى لماذا استيقظ ضميره وألف ذلك الكتاب ليفضح نفسه أولاً قبل فضحه لدولته ! لعل بقايا إنسان كانت ما زالت بداخله. ولكن حدسى يمنعنى من تصديق ذلك الظن! داخل وزارة الخارجية الأمريكية قاعة تسمى مركز التخطيط السياسى وهى “مركز اللعب” بها مجموعة منتقاة بعناية بالغة من أبرع الخبراء تعاقدت معهم الحكومة الأمريكية للقيام بأدوار تمثل اتجاهات السياسة العالمية لتحليلها وتقييمها تزويدهم بكل التقارير والمعلومات السرية المخابراتية “الجاسوسية” ولكل منهم دور بأن يمثل دولة من دول العالم !! ويقدم موقفه وحلوله ويطرح أفكاره حول كل أزمة أو علاقة. فهذا يؤدى دور عبد الناصر أو تيتو، ديجول وزاك الصينى وآخر السوفيتي.. إلخ. ويقدم ردود أفعاله تحت الظروف والاتجاهات المختلفة وتجتمع كل تلك الاقتراحات والحلول لتوزع بدورها على العقول الإلكترونية لدراسة صفات وسيكولوجيات الشخصيات العالمية ومما يستحق التوقف أمامه طويلاً هو إجادتهم لتمثيل هذه الأدوار وتوقعاتهم لسلوك القادة والزعماء ولم يخطئوا إلا قليلاً. ويسترسل الكاتب “مايلز” فى وصفه لقواعد تلك اللعبة فيشرح لنا أن القواعد الأخلاقية فيها التى يعيرونها كل الانتباه فقط هى قواعد أخلاق الدول الممثلة لكل رئيس وبالطبع بعد دراسات عديدة للتعرف على الأسس الأخلاقية الثابتة لكل دولة والمجتمع الخاص بها.. وكيف أن أهم قاعدة بنوا عليها تلك اللعبة هى اقتناعهم التام بأن أهداف أى زعيم وطنى هو البقاء فى السلطة، ويفترضون فى ذلك أن تصرفات وقرارات أى زعيم تصدر عن اعتقاده المطلق بأنه يخدم وطنه ويحقق أهداف شعبه، وأن ذلك الاعتقاد هو العدل والحق. والخبير أو الممثل يزود بجميع الحقائق والمعلومات عن الدولة التى يمثلها وبكل نقاط ضعف وقوة ذلك الزعيم وخفاياه الدقيقة وينتحل دوره ومن ثم يصدر آراءه التى بدورها تأخذ مسار الرعاية والاهتمام، ويتم التنسيق مع وكالة المخابرات والدفاع والخارجية وكل مؤسسات الدولة لأخذ قراراتها بناء على هذه اللعبة!!. وكما يقولون لقد حققت لعبتهم هذه نتائج جيدة، خصوصا فى التحركات السوفيتية فى أوروبا مما سهل التحركات المضادة إليها وتحديد معالم الصراع الروسى الصيني.. وصدروا 85 % من نسبة النجاح على الأرض بسببها فيكفى تغذية العقول الإلكترونية بكل المعلومات حول الشئون الاقتصادية والرأى العام والمستجدات ليصدر اقتراحاته وقرارته.. ووقف الأمر عند تخطيطهم لأوضاع الدول الإفريقية والآسيوية.. هنا توقف العقل الإلكترونى أمام المشاعر والعواطف والنزعات القبلية والفطرية للإنسان فى تلك الحضارات وانتهوا إلى أن معظم المناطق خارج مجال “العالم الغربي” قد تقلل من جدوى تنبؤات تلك اللعبة. وكما قال مؤلف هذا العمل إنه من السذاجة الخاطئة أن نفسر أى تصريح رسمى حول السياسة الخارجية بصفاء النية وخلوص السريرة. فإننى بالتبعية وحينما أخطئ مراراً وتكراراً وآخذ مع نفسى عهداً بعدم استدراكى للحديث فى السياسة مرة أخرى، لأنه فى النهاية لكل حديث أجد الجميع يصل إلى طريق مسدود لاعتقاد الآخرين أن آراءهم هى الصائبة وموقفهم هو الحق فى حد ذاته ووسط هذا التزمت الشائع جداً غير المثقف والذى قد يوصمك فى النهاية بالخيانة والجحود وخشية مخالفة مبادئ من لا يقرأ ويستكشف العوالم الأخرى غير المعلنة ولا يريد أن يفهم أو حتى يطلق لعقله الإدراك لأزمتنا السياسية الحادة التى تعقدت وطالت, وحتى لا تهدر كرامتك وصحتك أيضاً فالانسحاب على الرغم من حالة الغليان الفكرى والحزن المعرفى وثورة الخواطر التى تجول فى العقل هو أسلم الطرق. ألا يرى الجماهير والشعوب الحقائق؟! وهل ستظل مدفونة على الرغم من تسلسل الأحداث الظاهرة!! وإيقاعاتها المتسارعة!!. وهذا العالم الانتهازى الذى يعصرنا عصراً عن بعد !! وحالة التحليق فى أجواء المثاليات والعنترية التى لا مبرر لها فى وسط هذا الكم من الصراعات مع الضمائر اللا حية. أعتقد أننى لم ولن أستطيع الالتزام بهذا العهد مع نفسى فعند أول استثارة عدت للحديث فى السياسة!!... هذا المقال وما سيتبعه من مقالات سأفسر فيها للقارئ العربى لعبة الأمم نحونا من خلال قراءة جديدة لكتاب “ لعبة الأمم” لمؤلفه مايلز كوبلاند. وسنكتشف معاً سياستهم العامة والتحولات فى مواقفهم واتجاهاتهم ومناوراتهم السياسية على مر التاريخ والتى ما زالت تجرى حتى داخل كبريات الجامعات الأمريكية التى تهتم بممارسة هذه اللعبة والتدريب على أرض الواقع.. فأساس اللعبة اختلف جوهرياً ولم تعد تلك الخطط السياسية لفرض الحياة الديمقراطية والسلم والرخاء.. وإلى حديث قادم.