ننظر كمصريين لتجربة محمد صلاح بالكثير من الفخر، ونجد فيها الكثير من الإلهام. فنحن كمصريين نعرف كم التحديات التى واجهها شاب صغير من إحدى قرى الدلتا، كى يصنع طريقه كلاعب كرة قدم محترف، ونعلم أيضاً مدى صعوبة تألق لاعب كرة قدم وانضمامه للمنتخب الوطنى، وهو لا يلعب لأحد أندية القمة فى مصر، وندرك أن هناك العديد من النماذج فى تاريخ كرة القدم المصرية التى سنحت لها فرص احتراف فى أندية أوروبية كبيرة، ولكنها لم تتمكن من استغلال هذه الفرص وعادت أدراجها إلى أنديتها المصرية السابقة، أو أمضت بعض الوقت فى أندية الخليج بحثاً عن المال و«تأمين المستقبل» وليس التألق والاحترافية. قدم محمد صلاح للشعب المصرى نموذجاً للمثابرة القادرة على تخطى الكثير من الصعاب ومواجهة العديد من التحديات، لكن إذا كنا مدركين لحجم التحديات الداخلية التى واجهها محمد صلاح، حتى بات أساسياً فى نادى المقاولون العرب واحترف من خلاله فى نادى بازل السويسري، أولى محطاته الأوروبية، فهل نحن مدركين لحجم التحديات التى واجهت وما زالت تواجه نجمنا محمد صلاح فى الملاعب الأوروبية؟ بعيداً عن التحديات الفنية التى يواجهها أى لاعب كرة قدم محترف، والتى عانى منها محمد صلاح خلال الفترة التى لعب فيها لفريق تشيلسى الإنجليزي، حيث كان دائماً حبيساً لدكة الاحتياطى ولم ينل الفرصة الكافية للتعبير عن قدراته. وتمكن محمد صلاح من التأقلم مع هذه التحديات وتخطيها، استمر فى تدريباته حتى وجد الفرصة فى الإعارة لفيورنتينا الإيطالي، ثم اللعب لروما الإيطالي، والتألق اللافت للنظر الذى أبرزه صلاح هناك، وأخيراً الانتقال لفريق ليفربول الإنجليزي. استطاع محمد صلاح أن يتأقلم مع كل هذه الأندية بمدربيها المختلفين ولاعبيها الذين ينتمون لبلدان ومدارس متنوعة فى كرة القدم. لكن عودة محمد صلاح للعب فى إنجلترا تطرح عليه تحدياً جديداً، لم يكن موجوداً فى سويسرا، ولم يواجه صلاح هذا التحدى فى إيطاليا، وهو عنصرية جمهور كرة القدم فى إنجلترا. فلا يخفى على أى متابع للكرة الإنجليزية، أن جمهور كرة القدم فى إنجلترا من أكثر الجماهير عنصرية فى أوروبا، وهناك ربط بين الراديكالية فى التشجيع، والتى تصل للعنف فى الكثير من الأحيان، وبين صورة محافظة للمجتمع، مستوحاة من تلك التى تتبناها أحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا بشكل عام وفى بريطانيا بشكل خاص. وفقاً لإحصائية قامت بها شبكة FARE او Football Against Racism in Europe (كرة القدم ضد العنصرية فى أوروبا)، وهى إحدى منظمات المجتمع المدنى فى إنجلترا، أن الجمهور الإنجليزى هو أكثر جماهير أوروبا عنصرية، وأقل جمهور قادر على إظهار أخلاقيات فى المدرجات. تشير العديد من الدراسات لكون عنصرية مشجعى كرة القدم، هى فقط انعكاس للعنصرية التى تنتشر باستمرار فى المجتمع الإنجليزى ككل، خصوصاً أخيراً مع ظهور خطاب إقصائى يتبناه تيار اليمين المحافظ، وهو خطاب قائم على مناهضة التنوع الثقافى فى المجتمع الإنجليزى على أرضيات عرقية، ودينية بالأساس. على الجانب الآخر، هناك عدد من الدراسات التى تربط بين عنصرية مشجعى كرة القدم فى إنجلترا، والتاريخ الاجتماعى للعبة وتنظيمها فى المملكة المتحدة.
عرفت كرة القدم الإنجليزية التنظيم فى عام 1863، عندما تم إنشاء الاتحاد الإنجليزى لكرة القدم، تزامن ذلك مع الثورة الصناعية فى إنجلترا، وكانت كرة القدم بالأساس لعبة تمارسها الطبقة العاملة التى كانت تعمل فى المصانع المختلفة خلال الثورة الصناعية. وخلق الارتباط الطبقى لكرة القدم نوعاً من الخطاب القائم على التشابهات بين المشجعين، والذين كانوا ينتمون فى ذلك الوقت لعرق واحد وديانة واحدة، ومثلما تتبلور أخلاقيات وممارسات وقناعات من خلال الطبقة الاجتماعية وصراعاتها مع الطبقات الأخرى بالمفهوم الماركسى الكلاسيكي، تبلور بين جماهير كرة القدم عدد من الأفكار التى تم توارثها على مدار السنين، أفكار عن أفضلية اللاعب الأبيض المسيحي، أفكار عن غزو المهاجرين لبريطانيا وضرورة تصدى السكان الأصليين لهم، وأفكار عن تميز الأغلبية عن سائر الأقليات. ووفقاً لهذه الأفكار، ظهر العديد من الكيانات المنظمة لمشجعى كرة القدم فى إنجلترا، وارتبطت الغالبية العظمى من هذه الكيانات بالعنف والعنصرية.
توجهت العنصرية فى التشجيع تجاه اللاعبين من ذوى البشرة السمراء والأصول الإفريقية، ولم يكن هذا التوجه فى إنجلترا فقط، بل فى المدرجات الأوروبية ككل. وتعرض عدد كبير من اللاعبين لهتافات عنصرية من المدرجات فى كل ملاعب أوروبا، وفى المعتاد يقوم الجمهور باستخدام كلمات مثل nigger ، وهى تعنى “زنجي” وبها الكثير من الإهانة فى الثقافة الغربية، كما تقوم الجماهير بتقليد أصوات القرود فيما يعرف فى ثقافة التشجيع فى أوروبا ككل بال monkey chants أو هتافات القردة، فى تشبيه عنصرى للاعبين من ذوى الأصول الإفريقية، كما تقوم الجماهير بإلقاء الموز على اللاعبين لتأكيد ذات التشبيه. وفى مختلف الملاعب الأوروبية، تعرض لاعبون لهتافات عنصرية، مثل الإيطالى ماريو بالوتيلى لاعب نادى AC Milan، الذى بكى أكثر من مرة من جراء الهتافات العنصرية، كما ترك الكاميرونى صامويل إيتو الملعب فى مباراة برشلونة أمام ريال سراجوستا بسبب الهتافات العنصرية، وتطول القائمة لتشمل لاعبين مثل بواتينج، وبوبا ديوب، وروبرتو كارلوس، وهم كلهم نجوم كرة القدم، لا ينتمون للعرق المسيحى الأبيض الذى يشكل الغالبية من جمهور الكرة الأوروبى ويتسيد خطاب عنصرية التشجيع من الناحية العرقية. وفى عام 2017، تعرض رحيم ستيرلنج، جناح فريق مانشستر سيتى فى ذلك الوقت، لاعتداء عنصرى من أحد المشجعين الذى قال له “أتمنى أن تستيقظ لتجد أمك وطفلك ميتين أيها الزنجي”، قبل أن يقوم بركله فى قدمه عدة مرات، مما أدى إلى إصابة اللاعب وسجن المشجع الذى اتضح تورطه فى عدد من الاعتداءات العنصرية على اللاعبين.
وعلى الرغم من أن محمد صلاح لا يمتلك بشرة سمراء، لكنه ينتمى لإحدى الفئات التى تتعرض للهجوم من الجمهور الإنجليزى المتعصب، وهى فئة اللاعبين المسلمين. محمد صلاح وبول بوجبا ومسعود أوزيل ورياض محرز وآخرون، كلهم لاعبو كرة قدم ينتمون للإسلام، ربما لم يتعرض النجوم منهم لهتافات عنصرية بعد، لكن اللاعبين المسلمين غير المعروفين، والذين يلعبون لأندية فى دورى الدرجة الثانية أو الثالثة يتعرضون للكثير من الاعتداءات سواء اللفظية أم الجسمانية كونهم «مسلمون». ولا يمكن فصل العنصرية ضد الإسلام فى مدرجات كرة القدم عن حالة الإسلاموفوبيا التى تضرب جنبات المجتمعات الأوروبية بشكل عام، التى تستخدمها أحزاب اليمين المحافظ سياسياً لاستمالة الناخبين على أرضية وطنية وقومية معادية للتنوع ومنادية بالحفاظ على الهوية الأصلية للمجتمعات الأوروبية. ووفقاً للأفكار التى تشكل هذا الخطاب، ظهرت فى إنجلترا عام 2017 حركة اجتماعية تسمى FLA او Football Lads Alliance ، وهو ما يعنى اتحاد شباب كرة القدم، وهى حركة ينتمى أعضاؤها لجمهور أندية كرة قدم مختلفة، والهدف الرئيسى للحركة هو التصدى لكل أنواع التطرف بغض النظر عن الأرضية التى يتبلور عليها هذا التطرف، سواء كانت عرقية أم دينية. لكن فى واقع الأمر، الحركة تعادى الإسلام بشدة، وهناك الكثير من الإهانات والاتهامات التى توجه للإسلام خلال التظاهرات التى تقوم الحركة بتنظيمها والحشد لها، وهو ما جعل الحركة تتعرض للعديد من الانتقادات كونها تغذى ظاهرة الإسلاموفوبيا وتدعو للعنصرية ضد المسلمين، وهو ما يعد انعكاساً للعنصرية المتأصلة داخل مدرجات مشجعين كرة القدم فى إنجلترا.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات، تمكن محمد صلاح من النجاح فى تكوين شعبية طاغية له، شعبية تخطت حتى الآن نزعات العنصرية ومعاداة الإسلام المنتشرة فى المدرجات الإنجليزية. استطاع صلاح المزج بين تميز الأداء فى الملعب وبين التأقلم مع المجتمع الإنجليزي، وهى إحدى المعادلات الصعبة التى لم يتمكن الكثير من اللاعبين المصريين التوصل لها خلال مشوارهم الاحترافى فى كرة القدم. قامت جماهير ليفربول أخيرا بتأليف أغنية جديدة لمحمد صلاح، وهى أغنية بها الكثير من المعانى التى تحتفى بكون محمد صلاح مسلماً، وتتفهم وجوده فى المسجد، وتقول فى النهاية إنه إذا سجل صلاح مجدداً سوف أصبح مسلماً. ولكن السؤال الأهم، هل يعنى ذلك أن محمد صلاح محصن من العنصرية التى تتميز بها جماهير كرة القدم فى إنجلترا؟
الإجابة قطعاً هى لا، محمد صلاح يبذل قصارى جهده كى يتفادى الهجوم العنصرى عليه من المدرجات، ولكن ذلك لن يمنع تعرض صلاح للعنصرية المتأصلة فى المدرجات، ولثقافة التشجيع التى ترى أن دور المشجع هو مساعدة فريقه فى الفوز، حتى إن جاءت هذه المساعدة من خلال الهجوم على لاعب فى الفريق المنافس بكل الوسائل، حتى يخرج عن تركيزه ولا يستطيع القيام بالدور التكتيكى الذى من المفترض أن يقوم به فى المستطيل الأخضر. لكن الحقيقة المؤكدة أيضاً، أن محمد صلاح له جمهور، داخل مصر وخارجها، لن يتوانى عن الدفاع عنه حال تعرضه لأى اعتداء.