«بعد سنوات قليلة ستصبح الصين القوة الأولى، وعلى الجميع أن يتكيف مع هذا الأمر». هكذا قرر فرنسيس فوكوياما، الأكاديمى الأمريكى الشهير، فكما يقول:«إن الصين ستجعل من آسيا محورا لاقتصاد العالم الجديد، والتجارة المتدفقة بين المحيطين الأطلسى والهادئ». آراء فوكوياما الجديدة قالها أمام مؤتمر قمة حكومات العالم الذى عقد فى دبى ما بين 11، و13 فبراير الماضى. طبعا طارت كلمات فوكوياما عبر وسائل الإعلام العالمية، وراح المحللون يكيلون المديح لآراء المفكر الأمريكى يابانى الأصل، وكأنه جاء وحده بما لم يأت به الأولون والآخرون. طبعا النجاح لا يناقش، وفوكوياما نجح فى الخروج من قاعات المحاضرات الباردة إلى الفضاء الفسيح، ينافس نجوم السينما فى الشهرة. فهل حقا كان هو الوحيد مكتشف الصين الجديدة، كقوة أعظم من الولاياتالمتحدةالأمريكية فى السنوات المقبلة؟ وهل على الصين أن تخشى حقا من مديح السيد فوكوياما؟ شخصيا قرأت آراءه من منطلق التحذير لمحور الغرب الغارب، أمريكا وأوروبا والدول التابعة لهذا المحور. تصريحات فوكوياما ذكرتنى بالحكمة العربية الشهيرة (زامر الحى لا يطرب)، فمنذ سنوات أطلعنى الكاتب السياسى المصرى عمرو عمار، على بحث شامل بعنوان "نهاية القرن الأمريكى.. وبداية القرن الأوراسى – الحزام الاقتصادى وطريق الحرير"، وكان عمرو عمار قد قدم نفسه للقراء العرب بكتابين هما: (الاحتلال المدنى - أسرار 25 يناير والمارينز الأمريكى) و(خريف الاحتلال المدنى- حقيقة ما جرى للعرب فى لعبة الحروب الدينية)، وقد أثار عاصفة من الجدل السياسى، فقد قدم فيهما رواية مغايرة للأحداث التى ضربت المنطقة منذ سبع سنوات عجاف، واعتقدت شخصيا، كما اعتقد كثير غيرى، أنه سيتخصص فى مرحلة من أهم مراحل التحولات الدولية فى الشرق الأوسط، لكنه فاجأني بهذا الكتاب عن الصين، وقد استنبط بوضوح من مسار الأحداث خروج أمريكا من التاريخ كقوة عظمى وحيدة، وحدد مسار التغيرات الدولية ببزوغ الصين كقوة عظمى كبرى ضمن قوى أخرى، مع بزوغ نظام دولي جديد يقوم على تعدد الأقطاب. وكان عمرو عمار قد ناقش فى كتابه باستفاضة أفكار فوكوياما نفسه، وأطروحات صمويل هنتنجتون، وآراء بريجنسكى السياسية والإستراتيجية، وخلص إلى أن القوة الأمريكية المنفردة تعانى مأزقا كبيرا يجعلها لا تستمر كقوة عظمى وحيدة على رأس النظام الدولى، وهو ما أشار إليه بتعبير (نهاية القرن الأمريكى)، وكثيرون غيره وصلوا إلى هذه النتيجة الحتمية. لكن الجديد هنا هو، أنه أشار بوضوح إلى صعود الصين سريعا لتسبق أمريكا من خلال طريق الحرير الجديد، وتعاون الصين مع كل دول آسيا، والدولة الأوراسية، وفى القلب منها روسيا، لتصبح الصين باقتصادها الجديد غير القائم على التوحش الرأسمالى، قوة يحسب لها حساب فى المستقبل. وكأن الحافر وقع على الحافر، بين باحث من العالم الثالث وباحث من أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، فهذا الباحث الأخير قال أمام قمة الحكومات. إن العالم لم يعد مسيطرا عليه من قوة واحدة، وأن الصين قادمة إذا أصلحت بنيتها التحتية، مؤكدا أن القرار فى المستقبل سيأتى من بكين وليس من واشنطن.. أما أكبر الإشارات والتحذيرات فهى سخرية فوكوياما: «من عالم رأسمالى تسيطر عليه بكين بشعارات ماركسية». وبعيدا عما تطرق إليه حول إيران وحكومات المستقبل، ومأزق الديمقراطية فى الغرب، ففوكوياما طالما تراجع عن آرائه التى تبناها السياسيون وبعض المثقفين وكأنه خاتمة القول، بينما لا يحدث هذا مع باحثين عرب وغير عرب من دول العالم الثالث توصلوا إلى حكمة الأخ فوكوياما. وبنظرة سريعة إلى ثلاثين سنة ماضية نعرف لماذا هو فى هذه المكانة، ولماذا غيره بالكاد يعرف بلاده! كان فوكوياما فى السابعة والثلاثين، أستاذا جامعيا يحاضر فى قاعة المحاضرات الباردة. عشية سقوط جدار برلين عام 1989 كتب بحثا صغيرا نشرته مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية تحت عنوان (نهاية البشر.. الإنسان الأخير)، قرر فيه بصرامة نهاية التاريخ كأفكار كبرى، وبداية انتصار الليبرالية والرأسمالية كمسار حتمى للإنسان الأخير.. وتراجع عن هذه الأفكار مع الأزمة الاقتصادية العالمية، واعترف بخطأ ما استنتج، ولكنه كان قد جلس فى المقعد الأول ل”المفكرين” عابرى القارات والأزمان، وإذا قال.. قال الناس وآمنوا.. فسبحان موزع الأرزاق.