"القدس عربية" صيحة بريطاني يعشق عندما تلتقي الزخارف والمنمنمات الدقيقة والهندسية والرقش مع الدوائر والمثلثات، والمربعات المشبعة دائماً بحروف العربية الملونة غالباً بالأزرق، الذي يعود بنا إلي معانيه في ذاكرتنا العربية التي غالبا ما تربط بينه وبين الحماية من الحسد وشرور العين. عندما تقف منبهراً أمام تلك القطع الصغيرة من الزجاج، وتشدك خطوط رفيعة من القماش نٌسجت علي ألواح من الخشب والألمنيوم والحديد، لتراها عيناك مجسمات معلقة تارة، وأخرى وقد طُرحت أرضاً، وفي مشاهد أخرى باتت أسلاكاً متداخلة.. عندما تقرر أن تكون وسط هذا الكم من الإبداع والاندهاش والتفرد، فعليك أن تتجه إلى متحف الشارقة للفنون، لتشهد فعاليات تلك التظاهرة الثقافية الفنية، وذلك الكرنفال الاحتفالي العربي العالمي الذي يحمل اسم "مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية" الذي يتم العشرين من العمر، و يجمع لفيفاً من الفنانين من مختلف بلدان العالم، قطعوا أميالاً للمشاركة بأعمالهم الفنية المتخصصة في الفن الإسلامي في المهرجان الذي يكرس لهوية الفن الإسلامي ويقدمه بشكله الإبداعي المتفرد إلى مختلف أنحاء العالم. منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك أرض متحف الشارقة للفنون، تتملك روحك حالة من النشوة أمام تلك اللوحات التي تخطف الأبصار والتي تنوعت ما بين الزجاج والخشب والقماش. أول لوحة مباشرة في معطاها الإسلامي هي لوحة "قبة الصخرة المشرفة" في القدس في معرض "تأملات في فضاء مقدس" للبريطاني "بن جونسون"، تلك التي نجحت بجدارة في أن تشد كل الأعين والحواس إليها، تستطيع أن تقرأ ملامح الوجوه التي التفت حولها من مختلف الجنسيات، ولسان حالهم لا يردد سوى كلمة واحدة "القدس عربية"، عندما تحدثت مع صاحبها "بن جونسون" وسألته: لماذ القدس؟ أجابني بهدوء وبابتسامة حزينة ارتسمت على ملامحه: لأنها العالم، هي حاضنة ملوك الشعر ومن ألهمتهم بالمفردات، عروش أسوارها قهرت الغزاة، وقالت لجبروت الشياطين "لا"، القدس بالنسبة لي هي معشوقتي وملهمتي، ودقة رسمها وزخارفها وآياتها القرآنية أجبرتني على رسمها بهذا الشكل الذي يقترب من العمل الفوتوغرافي، قبة الصخرة في القدس نموذج مثالي واسطوري للعمارة الإسلامية، بل هي أكثر وأكبر من مجرد هندسة معمارية إسلامية، إنها القيم التي تكتنزها القواعد الأساسية للهندسة المقدسة. رفرفات إماراتية الفنانة الإماراتية نجاة مكي، وضعت عملها في حجرة صغيرة أرخت على بابها قطعة من القماش، لم تجذبني وحدي فحسب بل كل الحضور، ما ان تقرر الدخول إلا وتفاجأ بكرة زرقاء بحجم مجسمات الكرة الأرضية، ولكنها باتت مزخرفة بالألوان والأضواء، التي راحت تنشر ضوءاً أزرق في أثناء دورانها على سقف وجدران الحجرة، تقول مكي عن عملها: ألقيت عليه إسم"رفرفات بصرية" لأمزج بين الصوت كحاسة سماعية والبصر كحاسة رؤية، وفي دلالات هذا ثمة بعد إنساني شفيف دليل نعنة إلهية تسبح الخالق، وهو أيضاً منظور بصري يدل على قدرتنا على التأمل. يطل الأمريكي "باتريك دي ويلسون"، بمعرضه الذي جاء تحت عنوان "فسحة داخلية" بلوحة تتألف من الخشب والقماش والفولاذ مجتمعين، ليقدم شكل حروفيات قائمة تشكل قاعدة للعمل، وتقرب في تشكيلها العام من لفظ الجلالة "الله" و ترتفع عليها المادة الخشبية على شكل فراغات تذكر بالنوافذ والفتحات التي نشاهدها في المساجد، ويصف ويلسون عمله قائلاً: إنها العمارة الإسلامية التي تلهمني دائماً، والتي اجدها ثرية وفريدة بمفردان الفن التشكيلي، ومن هنا قررت أن أشارك بذلك العمل الذي لا يتضمن سوى كلمة "الله". سلام المحروسة الفنان المصري بيتر وجيه نجح بجدارة في ان يشد انظار الحضور إلى عمله الفني المتفرد" ابتهالات ضوئية" الذي اندرج تحت خانة فن الزجاج المعشق، والذي يعتبره بيتر من أجمل المفردات التارثية التي تزين نوافذ دور العبادة والبيوت القديمة-والكلام على لسان بيتر- استخدمت اللون الأحمر وسط الرسومات رمزاً للمركزية والقوة، كذلك الأصفر او طيف الشمس، في الأشكال الهندسية المتصدرة مركز لوحة الخط العربي، تتبعها مجموعة من اللوحات بلونها الأخضر، وهي ترمز إلى الخير للأرض، تليها لوحة بلونها الأزرق وترمز إلى السماء، وعلى هذه الأعمال رسمت رسوماً زخرفية وخطاً عربياً وتشكيلات نباتية متنوعة. بيتر اختار أن يشارك في مهرجان خاص بالفن الإسلامي بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" التي كتبها بمهارة على زجاجه المعشق في رسالة واضحة منه لا تحمل سوى السلام على أرض المحروسة.
قباب وللقباب والأقواس نصيب لا بأس به في المهرجان، الإسباني "ديفيد مورينو" يقدم في عمله "ربط الأبواب" استعارة من القباب والأقواس في العمارة الإسلامية، وهو عمل تركيبي تطلب من الفنان مجهوداً مذهلاً، فهو أقام ما يشبه العمارة "السلكية" المعدنية التي تحيل بدورها إلى الصبر والقوة.
بين النجوم ومن متحف الشارقة للفنون ينطلق بنا مهرجان الفنون الإسلامية إلى مركز مرايا للفنون في القصباء، لنشهد معرض "الحروف بين النجوم" للفنان تيمو ناصري من ألمانيا، ومعرض "جرافيتي – تجليات" الذي شارك فيه كل من الفنانين المصريين مجدي الكفراوي ومحمد عبد العزيز، بجدارية خاصة لكل منهما. ليفتتح المعرضين عبد الله العويس رئيس دائرة الثقافة بحضور محمد القصير المنسق العام للمهرجان، ومروان السركال المدير التنفيذي في هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير "شروق"، ولفيف من الفنانين المشاركين في المهرجان والإعلاميين الضيوف عندما تتامل معرض الفنان ناصري تدرك تعبيره الإبداعي الخاص، فهو ينطلق مما سبق وطرحه الخطاط العربي ابن مقلة، الذي عاش في القرن الأول الميلادي، والذي تحكي عنه بعض الكتب التراثية حكاية خيالية مشوقة تتعلق باكتشافه لأربعة حروف مفقودة من اللغة العربية، معتمداً على حسابات فلكية منطقية، فيقوم ناصري باستلهام هذه القصة في معرضه، محاولاً اكتشاف هذه الحروف ببناء شكل هندسي مستخدماً أدوات القياس الفلكية، ومحاولاً استقراء النظام الفلكي للنجوم.
جرافيتي وتجليات بينما يتناول الفنان المصري مجدي الكفراوي في جداريته مفهوم الأثر وحيوية العناصر البصرية للفن الإسلامي، ومدى تأثيرهما في الفن، الكفراوي الذي يعتقد أن التراث الإسلامي منذ نشأته يعتبر أحد أهم منابع الإلهام البصري، والأثر الإسلامي بالنسبة له مملوء بالأسرار على كافة المستويات البصرية، والتقنية والدلالية، وهو الذي حاول تطبيقه على جداريته التي حاول من خلالها ترجمة مثل هذه الأفكار من خلال صياغة بصرية ولونية، ذات ملمح إسلامي بارز. ويقول الفنان المصري أنه يرى جداريته ما بين الرؤى الفنية المعاصرة، لم تتخلى عن رموز ودلالات الفن الإسلامي، إذ يتكىء على التراث الإسلامي في عمله هذا، لا ينفك يبحث عن الجمال المطلق بلغة تعبيرية تتخذ من فن الجرافيتي نافذة لها، بالاستعانة بالشعر العربي، والصياغة البصرية لهذا الخط العربي، الذي يتصدر جداريته، وهو بهذا يترك فسحة للجمهور لكي يتأمل جداريته مشغوفاً بعناصر الجمال حيث الحرف يعبر عن طاقة روحية لا متناهية وهو بكل تأكيد يحمل العديد من المعاني والأسرار. الخط بالنسبة للكفراوي يمكن استخدامه في حروفيات بصرية لا نهاية لها، مما يترك أثرا بالغاً عند المتلقي ويدفعه للتأمل العميق في المشهد البصري كما هو حال جداريته المعروضة. أما محمد عبد العزيز فيحاول هو الآخر في جداريته تقديم مفهوم الأثر بالبحث عن الجمال المطلق باستخدام لغة تعبيرية خاصة، تتخذ فن الجرافيتي نافذة لها، مستعيراً من الشاعر نزار قباني بيتاً شعرياً يصوغه بصرياً بخط عربي أصيل يتصدر جداريته. ويعتقد عبد العزيز أن المتابع لحركة الفن التشكيلي وبشكل خاص الجرافيتي وفن الشارع، يجد أن الحرف العربي يتصدر الكثير من المباني والميادين عربية وغربية، غير أن بنية الحرف العربي لها تأثيرها الواضح في الناطقين بلغات أجنبية، ذلك بفعل الاشتغال البصري الذي يتناول الحرف برؤى تشكيلية معاصرة تستنهض طاقاته الجمالية، من هنا ندرك أثر الحرف العربي في آليات التلقي، كما أن الفن الإسلامي يوائم ما بين الحداثة والأصالة، وهو الذي عكسه عبد العزيز في جداريته بإيماءات بصرية توحي بوجودها، من خلال استغلال خامات مختلفة متعارف عليها، مثل الأرابيسك والخيامية وغيرها، في عمل يجمع بين الجرافيتي والجداري.
المسجد الطائر لم يكن ممكناً ألا نهرول إلى المسجد الطائر، وهو ذلك العمل الفني الذي صممه الفنانان تشوي وشاين من المملكة المتحدة والولايات المتحدةالأمريكية، و"الجناح المزهر" الذي توسط حديقة المجاز الشهيرة في إمارة الشارقة. فرح قاسم مسؤولة المهرجان قالت: إن الفنانين شان وسيو تلقيا شعار المهرجان وهو كلمة "أثر" من إدارة المهرجان، وقاما باقتباس فكرة الوحدات الزخرفية في السجاد الإسلامي وبإجراء بحث معمّق لتطوير أنماط السجاد، وتم تفريغ السجادة المستطيلة على القبة، بنقش النمط على السطح المكوّر، ليبدو التصميم كخيمة إسلامية تسجل ثقافة وحياة المسلمين.». وتضيف فرح قاسم قائلة إن الفنانين صنعا عملاً تركيبياً في الفضاء الخارجي ورُكب العمل في الإمارات، حيث بعث الفنانان التصميم وتم تنفيذه هنا في الشارقة، ولفتت القاسم الانتباه إلى الأثر الذي تتركه القبة المزخرفة على الأرض حين تشرق عليها الشمس فتتخللها، عندها ترتسم على الأرض كل الزخرفات في العمل وكأنها سجادة كبيرة منقوشة على الطريقة الإسلامية. وعن" المسجد الطائر» قالت فرح : هو عبارة عن مسجد بتكويناته المعروفة عند المسلمين من منارات وقباب ومحاريب مصنوعة من الخيوط الحريرية البيضاء، وبواسطة تثبيته بخيوط قوية الصنع يرتفع عن الأرض، في إشارة رمزية إلى الأثر الذي يحدثه المسجد في نفوس المصلين فيه، واعتباره وسيلة لارتقائهم وسموهم في مداءات الروح وعوالمها الشاسعة. وقد تم تصميمه من خيوط حريرية خفيفة بيضاء مشعة، بحيث يمكن للأشخاص رؤيته من بعيد وكأنه يحلق في الفضاء دون أية رابطة بالأرض ودون أية دعامة، و بفضل اختيار لونه الأبيض المصنوع من الخيوط الحريرية القوية، يبدو المسجد الطائر ليلاً وهو يشع ويتلألأ، وتتكون حوله هالة من النور بفعل انعكاسات الأضواء المحيطة به، فيجمع بالتالي بين معان عميقة كالسمو والنور والإيمان والرقي والعلاقة الفريدة التي تربط الأرض بالسماء المدينة.