سيناريو جديد يفرضه الوضع الاقتصادى فى تونس، بعد أن وضعت نفسها تحت مقصلة صندوق النقد الدولى، واتجهت لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى فرضه الصندوق عليها، بعد الاتفاق على حصول تونس على 2.9 مليار دولار لدعم هذا البرنامج، وبناءً عليه، حصلت على القسطين الأول والثانى من القرض، وقدرت قيمتهما بنحو 628.8 مليون دولار، وتنتظر موافقة الصندوق على القسط الثالث من هذا القرض، وقيمة هذا القسط مقدرة بما لا يقل عن 370 مليون دولار، فى الوقت الذى لم تقدم فيه الحكومة التونسية دعما للمستثمرين وتخفيف العوائق والقضاء على البيروقراطية التى تجعل المستثمر يهرب منها، حيث إن تونس لم تستطع جذب المستثمرين العرب والأجانب من أوروبا، مما جعلها أخيرا تطرق الأبواب الجنوبية تجاه إفريقيا واتخاذها بعض الإجراءات الاستثنائية التى تضغط على المواطنين، وتجدد المخاوف من أن تؤدى إلى الاحتقان الاجتماعى داخل تونس والتأثير على الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها فى 2019. المشهد الحالى يؤكد اتجاه تونس لفرض ضرائب جديدة على المواطنين وزيادة فى الأسعار بعد ترشيد دعم الوقود والسلع، والتخلى عن بعض الموظفين العموميين، ويأتى ذلك ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى فرضه صندوق النقد الدولى عليها، وكشف عنه مشروع الموازنة الجديدة لعام 2018 الذى تضمن جملة من الإجراءات والتدابير الاستثنائية لتقليل حجم الإنفاق، ومنها فرض ضرائب جديدة وتقليل عدد الموظفين، حيث يمثل التوظيف نسبة 40% من الميزانية العامة للدولة، وخطة الحكومة تخفيضه إلى 17% بحلول عام 2020 حيث صدق مجلس نواب الشعب (البرلمان) التونسى العام الحالى على مشروع قانون رقم 46 لسنة 2017 الذى يتعلق بضبط أحكام استثنائية للإحالة إلى التقاعد قبل بلوغ السن القانونية فى قطاع الوظيفة العمومية، ويمكن هذا القانون أعوان الوظيفة العمومية الذين يبلغون السن القانونية للتقاعد خلال الفترة الممتدة من 1 يناير 2018 إلى 1 يناير2021 من طلب الإحالة إلى التقاعد قبل بلوغهم هذه السن، وتنطبق أحكامه على العمالة المنتمين لمختلف أسلاك الوظيفة العمومية حيث اشترط صندوق النقد الدولى التخفيض فى أعداد العاملين بالقطاع العام لكى لا يتجاوز500 ألف موظف، فى حين أن عددهم يبلغ اليوم 650 ألف موظف عمومي.
كما تقتضى خطة الإصلاحات الهيكلية التى دعا لها الصندوق التزام السلطات التونسية، بألا تزيد كتلة الأجور على 12 فى المائة من ميزانية الدولة بحلول سنة 2020، وهو ما استدعى الضغط على الانتدابات فى القطاع العام، والتوجه نحو منعها بالكامل خلال السنة الحالية والسنة المقبلة إلا بالنسبة للوظائف التقنية الضرورية.
الوضع الاقتصادى فى تونس متأزم بشكل كبير، لأن هناك عجزا متفاقما فى الميزانية تخطى فى نهاية شهر يوليو الماضى حدود 3 مليارات دينار، كما أن هناك زيادة فى عجز الميزان التجارى بالدولة ليصل إلى 10.07 مليار دينار (4.14 مليار دولار) خلال 8 أشهر من العام الجاري، مقابل 8.25 مليار دينار (3.39 مليار دولار) فى الفترة ذاتها من 2016و بلغ معدل البطالة خلال الثلث الأول من العام 2017 نحو 15.3%، أى 626 ألف شخص، كما بلغ حجم الدين الخارجى 28.7 مليار دولار فى 2016، مرتفعًا من 13.4 مليار دولار فى 2010، وارتفعت نسبة التضخم فى البلاد 5% حسب تقرير رسمى للبنك المركزى التونسى، ولو تمت المقارنة بين 2011 و2017 سنجد الأسعار ارتفعت بنسبة 70% على الأقل ولذلك فالوضع الاجتماعى يتأثر بهذه الأوضاع ويخلق حالة من القلق وعدم الأمن الاجتماعي. وحتى الآن لم تتجه تونس إلى تحرير سعر الصرف كما فعلت مصر، لكنها فى طريقها لذلك، لأن الدينار التونسى يشهد انخفاضات متتالية مقابل العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الأمريكى، حيث خسرت العملة التونسية أكثر من ثلث قيمتها منذ العام 2011. الإجراءات القاسية التى اتخذنها الحكومة التونسية ربما ستزيد حالة من الاحتقان فى الفترة المقبلة خصوصا ما تم اتخاذه من قرارات حول زيادة الضرائب التى لا تستطيع بمفردها أن تحقق الإصلاح، لأن زيادة الضرائب تقابلها زيادة فى الأجور وتراجعا فى قيمة الدينار، مما يجعل معدل التضخم يرتفع بنسب كبيرة، وكذلك قرار ترشيد دعم الوقود والمواد الغذائية، يجب الانتقائية فيه، وترشيده وتوجيهه لمستحقيه، وتوفير مصالح أخرى تهتم بالتعليم والتغذية والصحة، والنظر لتجارب دول أخرى مثل البرازيل وتركيا، كما أن الوضع الاقتصادى الحالى يحتاج إلى ولادة قيصرية، وهناك قرارات حكومية تتحلى بالجرأة لتحقيق الأهداف وعدم التعويل على الأطراف الخارجية، لذلك يجب أيضا الاعتماد على رأس المال البشرى والاستعانة بالخبراء الوطنيين لإيجاد حلول واقعية، وانتشال البلاد من الوضع الاقتصادى الراهن وانتقالها من اقتصاد ريعى خدمى يعتمد على السياحة إلى وضع يهتم بالصناعة والمعرفة والتكنولوجيا، وهو ما يسهم فى جلب الاستثمارات وكذلك تحتاج إلى الإصلاح المؤسسى والاقتصادى وفتح ملفات الفساد وتهريب الأموال، وتغيير قانون الشغل والاستثمار والضرائب. الإصلاحات التى تقوم بها الحكومة التونسية حاليا تتسم بالجراءة لكنها موجعة وضرورية لأن هناك أزمة مالية كبرى فى تونس، وهى بحاجة إلى سيولة مالية خصوصا أن الخلافات الخليجية أثرت على المساعدات المقدمة لتونس لاختلافات وجهات النظر حولها، كما أن الاتحاد الأوروبى ليس لديه القدرة لتمويل المشاريع فى تونس ولم يقدم مساعدات أو تمويلات، حيث إن فرنسا وعدت بتقديم 3 مليارات فى العام الماضى لكن لم يتم تقديم سوى 15 مليون يورو فقط، ويؤكد هذا أن هناك حالة من التفاقم ولم تحصد تونس إلا وعودا فقط من فرنسا، وهو ما يجعل الحكومة التونسية تفكر جديا فى غزو أسواق جديدة داخل إفريقيا والعمل على استعادة جذب الاستثمارات العربية وتهيئة مناخ الاستثمار لذلك فى الفترة المقبلة، والاضطرار لتطبيق وصفات صندوق النقد الدولى للحصول على بقية القرض المتفق عليه.