عام 2014 محطة فارقة فى تاريخ المعرض نظرا لتزامنه مع احتفالات الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية كيف تحول من خيمة يجتمع فيها بعض الناشرين العرب وقلة من القراء آنذاك، إلى مهرجان معرفى يقود المشهد الثقافى العربى ويجمع سنوياً أكثر من مليونى زائر يتوافدون إليه من مختلف أنحاء دولة الإمارات، والبلدان المجاورة، ويستقطب ما يفوق ال1500 دار نشر من عشرات الدول ؟ سؤال يفرض نفسه جلياً ويدفعك حتماً للتأمل والبحث وراء إجابته، خاصة عندما تتظر إلى الخطوات الواثقة والواعية التى يسير عليها معرض الشارقة الدولى للكتاب، فمنذ اليوم الذى افتتح فيه حاكم الشارقة دورته الأولى عام 1982، معلناً رهانه على المعرفة، وظل العمل يتواصل على مدار خمسة وثلاثين عاماً، حتى بات المعرض اليوم ثالث أكبر معرض كتاب فى العالم. أقف كثيراً امام اللقب الذى لقبه حاكم الشارقة عندما اطلق عليه «رهان الثقافة رابح» ، مقولته قد تلخص حكاية المعرض الذى انطلق قبل نحو 35 عاماً بستة ناشرين، ولم يقصده يومها أحد، حينها نصح البعض صاحب الفكرة بالعدول عنها، والبحث عن مشروعات بديلة، لكن الشيخ الدكتور سلطان القاسمى راهن على الثقافة والمستقبل، ورأى أفقاً مشرقاً يلوح من بعيد. ليكسب الرهان ويتحوّل معرض الكتاب إلى حدث دولي، وعرس ثقافي، بالمعنى الحقيقى لا المجازي، ينتظره المثقفون، ومريدو الحرف وعشاق الكلمة فى كل عام.
«مساحة تواصل» رفض معرض الشارقة الدولى للكتاب فى بدايته أن يكون مجرد سوق كبير للكتاب، ليتحوّل إلى حالة ثقافية، تجمع القارئ والناشر والمثقف، فى رحاب الكتاب الذى يبقى نجم الحدث، ليطوف الجميع حوله، ويتلاقون من أجله بشكل خاص، يستوى فى ذلك قادمون من بلدان عربية، وآخرون من دول كثيرة حول العالم، بعد أن ذاع صيت الشارقة ومعرضها الذى صار وجهة للمتخصصين الباحثين عن مساحة تواصل مع الآخر، وكذلك للقراء العاديين الذين ينشدون جديد المعرفة، وحصاد المكتبات.
«إدريس وأدونيس» وبعدد محدود من الناشرين، انطلقت الدورة الأولى من معرض الشارقة الدولى للكتاب فى 18 يناير عام 1982، التى افتتحها حاكم الشارقة، وأقيمت فى مركز اكسبو الشارقة، التى قال فيها أثناء استقباله وفد ممثلى أعضاء دور النشر العربية آنذاك: «إن تربية الأبناء تربية سليمة يجب اعتمادها وتنميتها فى إطار الإيمان بالوحدة العربية، والتأكيد على دور الشباب فى التنمية الفكرية، ما يحتم على دور النشر القيام بدورها الطليعى فى خدمة هذه المبادئ السامية». منذ تلك اللحظة بدأ المعرض يجتذب دور نشر حرصت على الحضور إلى الشارقة والانطلاق منها إلى المنطقة، ليتنامى عدد المشاركين، وكذلك الرواد كل عام، وأيضاً الرموز الثقافية العربية التى حلت ضيفة عليه، فالدورة الثالثة التى انطلقت فى الثامن من أكتوبر عام 1984، شهد افتتاحها رائد القصة القصيرة والروائى الراحل يوسف إدريس. بينما شاركت فى الدورة الخامسة قامات ثقافية عربية من حقول إبداعية مختلفة، فالتقى جمهور الشارقة مع الشاعر السورى أدونيس، والشاعر المصرى فاروق شوشة، والروائى السودانى الراحل الطيب صالح، ومبدعون ومثقفون آخرين حرص المعرض على استضافتهم. بالإضافة إلى ذلك، كان معرض الشارقة للكتاب بمثابة مساحة لإثراء الساحة الثقافية، وإطلاق مبادرات جديدة، لتخدم ليس فقط المقيمين فى إمارة الشارقة ودولة الإمارات، بل كل الدول العربية، ففى الدورة الثالثة للمعرض أكد حاكم الشارقة أن «العمل الثقافى بالشارقة سيشهد خلال الفترة المقبلة نقلة كبيرة».
«اقرأ أنت فى الشارقة» أسماء كبيرة وأرقام ضخمة حملتها آخر خمس دورات من المعرض، ووصلت الفاعليات إلى 1000 فاعلية فى الدورة ال34 بعدما كانت 400 فاعلية فى الدورة ال30، فيما وصل عدد الزائرين للمعرض فى الدورات من 30 إلى 34 ما يقارب 4.8 مليون زائر، بالإضافة إلى اتساع مساحته من 7600 متر مربع فى الدورة ال30 لتصل إلى 16000 متر مربع فى دورته الأخيرة عام 2015، كما يستضيف المعرض الذى تتواصل فاعلياته كل عام لمدة 11 يوماً قائمة طويلة من المبدعين، ليحجز لنفسه مساحة مهمة بين أبرز ثلاثة معارض على مستوى العالم، ويطمح القائمون عليه فى المنافسة على الصدارة، فى وطن يضع دوماً الرقم واحد نصب عينيه فى جميع المجالات. وفى كل دورة، كانت كلمة حاكم الشارقة تحث على التزود من الكتب والاستفادة منها، وضرورة دعم من يعملون فى صناعة النشر بشكل خاص، حيث كان يؤكد بأن «الكتاب يحق له أن يُعفى من كل ما يؤجل ويعوق وصوله إلى الناس، صغاراً وكباراً، الكتاب يحق له أن يُعفى من كل قيد أو رسم أو عبء، يقلل جريانه مجرى الدم فى الناس». ورفع المعرض شعارات كثيرة فى كل دورة من دوراته لتبقى عالقة فى الأذهان، مثل «القراءة للجميع»، و»اقرأ أنت فى الشارقة»، و»فى حب الكلمة المقروءة» وغيرها، وكانت هناك التفاتة كبيرة إلى الأطفال بشكل خاص، حيث وجه الاهتمام مبكراً إلى «أجيال المستقبل»، وتم النظر إليهم باعتبار أنهم «فرس الرهان»، لذا كان شعار الدورة ال19 من المعرض «القراءة للصغار».
«أجيال المستقبل» وفى الدورة ال27 للمعرض، كشف حاكم الشارقة عن مبادرة رائدة وهى «مشروع ثقافة بلا حدود»، لتتوالى المبادرات، وتبنى دعم دور النشر المتميّزة، وكذلك المبدعين، عبر جوائز سخية، صارت من ثوابت المعرض الأشهر فى المنطقة، الذى يمتلك حلم الوصول إلى الأشهر عالمياً، مزاحماً فرانكفورت ولندن. وصار المعرض حدثاً ينتظره مثقفون من بلدان عدة، وليس من دولة الإمارات فحسب، كما أصبح ملتقى للمبدعين والمثقفين، يجمع الكتّاب، ويضمهم بين ردهاته وفى قاعات ندواته الحافلة بالمناقشات والضيوف والأسماء، لا سيما فى لحظة حرجة تمر بها المنطقة، نتج عنها تقلّص الفاعليات الثقافية فى العديد من الدول الشقيقة. كما يسعى المعرض إلى غرس حب الكتاب لدى الجميع، ويعمل على اجتذاب الصغار، عبر أنشطة مخصصة لهم، تجمع بين الفائدة والمتعة، ليفاجأ زائر المعرض بكمّ الفاعليات المخصصة للأطفال، وكذلك ردهات المعرض الحافلة بالزيارات المدرسية، والطلبة الذين يأتون من شتى إمارات الدولة، وليس من الشارقة فحسب. كما ينظم المعرض زيارات لبعض الكتاب والضيوف إلى مدارس فى الشارقة ودبي، كى يعرضوا أفكارهم أمام الطلبة، ويرووا تجاربهم مع الكلمة لأجيال المستقبل، بهدف تعريف الطلاب إلى مهارات الكتابة، وتجاربهم الشخصية فى تأليف كتبهم، تعزيزاً لدور المعرض فى نشر الثقافة والمعرفة بين أفراد المجتمع.
«شهادة عالمية» وشكل عام 2014 محطة فارقة فى تاريخ المعرض نظراً لتزامنه مع احتفالات الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية، وهو الإنجاز الذى جعل اسم الإمارة مرتبطاً بالثقافة على الدوام، لذا جاءت فاعليات ونشاطات المعرض خلال عام 2014 ،منسجمة مع هذه الريادة المستحقة للشارقة باعتبارها منارة ثقافية وعاصمة للكتاب. كما شكل إعلان حاكم الشارقة، عن مكرمة بقيمة أربعة ملايين درهم لدعم شراء كتب من دور النشر المشاركة فى الدورة ال34 من معرض الشارقة الدولى للكتاب، إسهاماً فى دعم صناعة الكتاب والاستثمار فى التنمية الفكرية والبشرية للأفراد، تحفيزاً جديداً لدعم الناشرين والكتاب فى الوطن العربي. وأثبتت مشاركات معرض الشارقة الدولى للكتاب الخارجية فى الدول المجاورة على امتداد قارات العالم، أن مشروع الشارقة الثقافى وحضورها الفاعل على أجندة الأحداث الثقافية فى العالم، بات شهادة عالمية للتميّز من خلال ما تقدمه من نشاطات وفاعليات، وما تستضيفه من معارض ومؤتمرات تحتفى بالثقافة ومفرداتها كافة، وهو ما جعلها وجهة دائمة للمثقفين والكتاب والناشرين ولجميع العاملين والمهتمين بالعمل الثقافى وصناعة النشر محلياً وإقليمياً وعالمياً.