ظلت مصر لعهود طويلة قبلة العلم والعلماء، صاحبة الريادة بالمنطقة العربية وجامعة مفتوحة لجميع الدول الإسلامية فى أقطاب الأرض يقصدها القاصى والدانى للنهل من معين علومها المتبحرة فى جميع المجالات حتى صارت بؤرة إشعاع ثقافى وتنويرى، بدءا من الأزهر الشريف وحتى إنشاء جامعة فؤاد الأول القاهرة حاليا وجامعة إبراهيم باشا عين شمس حاليا انتهاء بالصروح التعليمية الممتدة فى جميع محافظاتها من خلال جامعاتها العريقة، إلى أن طرقت مصر أبوابا جديدة لتفتح آفاقا رحبة تستوعب التعليم الجامعى الخاص اقتداء بتجارب الدول المتقدمة فى هذا المضمار والتى تضع نصب أعينها معايير الجودة والكفاءة كأسس راسخة للحصول على مخرجات تعليمية تسهم فى الإنماء المجتمعى، لكن يبدو أن الأمر فى مصر انحرف عن هدفه المنشود، فتحول كثير من الجامعات الخاصة إلى مشروعات تجارية تهدف إلى الربحية على حساب القيمة العلمية فى ظل تراخى القوانين غير الملزمة بتطبيق معايير جودة الأداء. وفى ظل غياب آليات رقابية صارمة اهتزت الأرض تحت هذه الجامعات لتفقد ريادتها نتيجة تراجع نسب التوافد الطلابى العربى إلى نسبة تقل عن ٪10، واشتدت الأزمة بعد إعلان الأردن سحبها لجميع أبنائها بالجامعات الخاصة المصرية، ويربو عددهم على ثلاثة آلاف طالب وعدم اعترافها بالشهادات والدرجات العلمية إلا من الجامعتين الأمريكية والألمانية، ناهيك عن اتجاه دول عربية عديدة كالسعودية والإمارات والكويت وغيرها إلى الدخول فى سباق محموم لإرساء قواعد التعليم الخاص بها وفق معايير الجودة الدولية وشهادات الاعتماد العالمية حرصا على أبنائها، بينما مازالت الجامعات الخاصة المصرية تعانى مشكلاتها فى غفلة من القائمين عليها والمسئولين عن هذه المنظومة، فلزاما علينا فتح هذه الملفات الشائكة لتلمس أوجه القصور وعوار هذه التجربة لتبدأ خطوة فى طريق استعادة الريادة المصرية فى مجال التعليم. برغم أن الجامعات المصرية الخاصة هى الأولى فى نشأتها بالمنطقة العربية، تليها الأردن، فإن اتجاه الغالبية العظمى نحو التركيز على الربحية على حساب الأهداف العلمية والتعليمية أدى إلى التراجع النسبى لمرتبة هذه الجامعات وهذا ما يحذر منه د. فاروق إسماعيل رئيس جامعة «الأهرام الكندية» والرئيس الأسبق لجامعة القاهرة، مشيرا إلى المعاناة الحقيقية لمستوى التعليم العالى وبخاصة الخاص والعزوف عن متطلبات التحديث وإدخال برامج جديدة لا توجد فى نظيره الحكومى بل بلغ الأمر ذورته سوءا بالاعتماد شبه الكامل على الكوادر الحكومية حتى تحولت الجامعات الخاصة إلى صورة مشوهة من الجامعات الحكومية، علاوة على ضعف الإمكانات والتجهيزات التى لا تتلاءم مع الرسالة التعليمية التى أنشئ هذا النوع من التعليم لأجلها، والأسوأ عدم وجود برامج ومناهج علمية ذات مرجعية أصولية تدفع المتعلم إلى الممارسة البحثية، فاقتصر الأمر على عدد من المذكرات والملازم التى لا تؤهل إطلاقا خريجا جامعيا متميزا، إضافة إلى عدم الالتزام بنسبة لا تقل على ٪25 للتعليم العملى من خلال برامج تدريبية تضمن منتجا تعليميا قادرا على التحدى والصمود فى سوق العمل وهى ما يسمى بالتأهيل الوظيفى تتحول التعليم الجامعى الخاص إلى مجرد مشروع ربحى لا يسعى إلى التطوير أو تطبيق معايير جودة تحافظ على مكانته فى الأوساط التعليمية مما أدى إلى سحب البساط من بعض الدول العربية التى اخترقت مجال التعليم الخاص وفى مقدمتها الأردن. كما أن تدنى مجاميع القبول بالجامعات الخاصة أثر سلبا على مخرجات العملية التعليمية برغم أن بعض الدول العربية كالسعودية والكويت والأردن الحريصة على المستوى العلمى لطلابها تطالب بمعاملتهم كالمصريين فيما يتعلق بمجاميع القبول، وخصوصا فى القطاع الطبى، وهذا التضاؤل فى الدور التنموى عرض جامعاتنا لحرب شرسة من بعض الدول وخصوصا الأردن التى أعلنت منذ أشهر قليلة سحبها لأبنائها الطلاب من جميع الجامعات المصرية وعدم الاعتراف بالشهادات والدرجات العلمية إلا الصادرة من الجامعتين الأمريكية والألمانية ومعهد العاشر من رمضان، وطالما طالبنا برد الكرامة المصرية والتعامل بالمثل مع الجامعات الأردنية، وأتصور أن عمر الجامعات الخاصة قصير ما لم تنجح فى توفير التجهيزات المادية والكوادر البشرية وفى مقدمتها هيئة تدريس مستقلة، لذا لابد من إعادة توزيع خريطة الجامعات الخاصة على مستوى الجمهورية، فالقاهرة الكبرى وحدها بها 12 جامعة خاصة مع وضع برنامج زمنى لهذا الأمر يمتد لعشر سنوات. ورغم أن مصر هى أول بلد عربى يهتم بوجود هيئة لضمان الجودة منذ عام 2007 فإن غياب الاعتقاد بهذه الثقافة أدى إلى عدم حرص بل عزوف الجامعات عن الالتزام بهذه المعايير، فلا يعقل أن هناك حوالى 450 كلية ما بين حكومية وخاصة ولم تحصل سوى 20 جامعة فقط على اعتماد الجودة. ويتطرق د. فاروق إسماعيل إلى فساد المعاهد العليا التى تحولت إلى «عشش» مطالبا بإيقاف إنشاء معاهد جديدة وسحب تراخيص الخارجين عن الاشتراطات والمعايير التى أنشئت على أساسها، حيث تعمل هذه المعاهد وفق قانون 52 لسنة 1970، أى منذ 42 عاما منذ معهد اللاسلكى، الأمر الذى أسفر عن هذا الوضع السيىء، وهذه مسئولية تقع على عاتق المسئولين لأن بعض الأمور فى وزارة التعليم العالى تسير عكس اتجاه الإصلاح، فلابد أن يبدأ التطهير من الداخل. ولأن العلم ليست له جدوى اقتصادية بقدر ما له من قيمة اجتماعية كما جاء على لسان د. حسن راتب مؤسس جامعة سيناء فإن للجامعات الخاصة رسالة تعليمية أنشئت خصيصا من أجل تحقيقها كما هو متبع فى دول العالم المتقدم، حيث يقوم فكر إنشاء الجامعة الخاصة على أساس جغرافى بمعنى خدمة منطقة بكل ظروفها واحتياجاتها لتقديم خدمة وقيمة اجتماعية بالدرجة الأولى دون تغليب الهدف الربحى، فإن افتقار بعض الجامعات الخاصة والمعاهد العليا إلى الخبرات والكوادر البشرية والإمكانات التجهيزية لممارسة العملية التعليمية وفق منهجية بحثية وغياب الرقابة المشددة وراء تدنى المستوى وانحسار الإقبال العربى فى ظل مناخ تنافسى، الأمر الذى يتطلب مزيدا من سيطرة وزارة التعليم العالى ومنحها حق الضبطية القضائية مع ثبوت الفشل فى إدارة العملية التعليمية وعدم الالتزام بالانضباط وخلل سير الامتحانات وغياب الكوادر المؤهلة والخاصة بكل كيان تعليمى دون اللجوء إلى تفريغ الجامعات الحكومية مع إعادة النظر فى المنظومة بأكملها، بحيث تتحول هذه الجامعات إلى منبر تنويرى لإشاعة الحضارة والفكر والثقافة وربط هذه الأمور بالخدمة المجتمعية والتوسع فى إنشاء جامعات أهلية وخاصة على مستوى الجمهورية لضمان ربط السكان بالمكان، فقد نجحت جامعة سيناء فى تحقيق هذه المعادلة كجامعة مكانية تعبر عن احتياجات سكان المنطقة ونجحت فى تحقيق التميز المنشود، خصوصا فى الكليات العملية وفى مقدمتها كلية طب الأسنان المتقدمة فى الشرق الأوسط. ويرى د. حسن راتب أن الجامعة رسالة علمية تسهم فى إنماء الشخصية لا الاقتصار فقط على الدرجة العلمية حتى تأتى بثمارها المرجوة وتكون جاذبة محليا وعربيا. ويطالب د. حاتم البلك أمين مجلس الجامعات السابق ورئيس جامعة سيناء بضرورة إعادة فحص اشتراطات الحصول على التراخيص لتكون أكثر إحكاما وخضوعا لآليات رقابية صارمة. أحمد عبدالعزيز وكيل وزارة التعليم العالى: المساءلة القانونية وسحب الترخيص للمخالفين تساؤلات عديدة تفرض نفسها بقوة تحت وطأة واقع تعليمى صادم، وكاد أن يتهاوى حول وضعية الجامعات الخاصة واشتراطات الحصول على التراخيص ومراقبة الأداء والاستمرار، وما دور وزارة التعليم العالى حيالها فى حالة عدم الالتزام، وإذا ما كانت هناك خطة لإعادة النظر فى آليات منح وسحب التراخيص، فرغم هذه السلبيات أكد أحمد عبدالعزيز، وكيل أول وزارة التعليم العالى، ورئيس قطاع التعليم والمشرف على التنسيق، أن هناك عدة معايير يشترط توافرها لمنح تراخيص الجامعات الخاصة كتوافر الإمكانات المادية والبشرية، حيث تتمثل الأولى فى التجهيزات حيث يتم إيفاد لجنة فنية من المجلس الأعلى للجامعات وقطاع التعليم الخاص لمباشرة هذه الأمور، ويتم تنظيم العمل داخل هذه الجامعات والمعاهد العليا الخاصة وفق لائحة إدارية، وتتم مراجعة التراخيص ومتابعة الأداء وفق اشتراطات هذه اللائحة، ويتم من خلال إدارة التعليم الخاص تطبيق القانون فى حالة المخالفة وتتعرض الجهة للمساءلة القانونية وتوقيع الغرامات ويتم تشديد الرقابة على المعاهد العليا أيضاً البالغ عددها 140 معهداً بنسبة إشغال 100 ألف طالب برغم أن قدرتها الاستيعابية تزيد على 400 ألف طالب، ولكن بالتأكيد هناك قصور فى الأداء ربما يرجع إلى عدم إلزام القائمين على التعليم الخاص بتطبيق نظم الجودة المحلية أو العالمية برغم وجود وحدات معايير جودة داخل الجامعات والمعاهد الخاصة ووزارة التعليم العالى باعتبارها المراقب القانونى لجودة الأداء، وربما يرجع هذا التراجع النسبى لتوافد الطلاب العرب للظروف السياسية التى تمر بها البلاد وحالة عدم الاستقرار الأمنى. د.أشرف حاتم: ضعف الأداء وغياب الجودة وراء انخفاض الإقبال العربى التطور التعليمى المذهل الذى حققته العديد من دول شرق آسيا كماليزيا وغيرها ومواكبة معايير الجودة الأوروبية كان جاذبا بشكل ملحوظ لأبناء الدول العربية، خصوصا فى ظل غياب قوانين واشتراطات ملزمة للحصول على شهادات اعتماد الجودة، فمن بين 22 جامعة خاصة لا توجد سوى أربع جامعات فقط مؤهلة للحصول على اعتماد الجودة ولم تحصل عليها فعليا سوى الجامعة الأمريكية حرصا على سمعتها المحلية والدولية، الأمر الذى أدى إلى انخفاض التوافد العربى من 16% إلى 10%، ناهيك عن الأوضاع الأمنية المتردية والتقلبات السياسية التى شهدتها البلاد العامين الماضيين وفق رؤية د. أشرف حاتم، رئيس المجلس الأعلى للجامعات، موجها الأنظار نحو تقاعس الجامعات الخاصة عن تطبيق المفهوم العلمى لهذاه الكيانات التعليمية المتقدمة بالسعى نحو جودة الأداء والمنتج وفق المعايير المتفق عليها عالميا، خصوصا أن توافر بعض المزايا التنافسية للتعليم الخاص بمصر كانخفاض نفقات التعليم والمعيشة مقارنة بنظائرها، يجعلنا جديرين باستعادة الريادة العربية برغم تصاعد إحصائيات الإقبال العربى على جامعات السعودية والإمارات والأردن، فإنه مازال هناك إقبال معقول من أبناء فلسطين وليبيا وسوريا والعراق ربما لأسباب الجوار الجغرافى، وأوضاع بلادهم السياسية على التعليم الجامعى بمصر، خصوصا الكليات العملية كالطب البشرى وطب الأسنان والصيدلة التى ليس لها نظير بالدول العربية، فإن هذا لا يعنى عدم وجود أوجه قصور ملحوظة بالجامعات الخاصة أبرزها غيبة هيئة تدريس مستقلة ومؤهلة بخبرات علمية وملاحقة دولية وعالمية لأحدث التطورات فى النظم التعليمية. كذلك عدم الاهتمام بالبحث العلمى برغم أن هذه الجامعات كان الهدف الأساسى من إنشائها توافر خدمة علمية وتعليمية وبحثية مميزة لأبنائها، خصوصا أن حجم الإنفاق التعليمى ومصروفاتها الدراسية المرتفعة نسبيا تسمح لها بأداء الدور البحثى على الوجه الأكمل، لكن هناك إهمالاً ملحوظاً لهذا الجانب الحيوى الذى يصقل بلا شك المنتج التعليمى ويجعله مؤهلا لاختراق أسواق العمل العربية والدولية، وهذا ما تحرص على توفيره الجامعات العربية الخاصة، رغم حداثة نشأتها وبرغم وجود قطاع الدراسات المتخصصة بالمجلس الأعلى للجامعات مختص بإرسال لجان متخصصة لمباشرة ومتابعة مدى التزام التعليم الخاص بالإمكانات المادية والكوادر البشرية لضمان جودة مخرجات التعليم، فإنه ليس هناك قانون أو اشتراطات ملزمة بضرورة التأهيل لتطبيق معايير الجودة والحصول على شهادة اعتماد، حيث تتم معادلة الشهادات الصادرة عن الجامعات الخاصة أتوماتيكيا كل خمس سنوات بعد أن كانت كل ثلاث سنوات، وفى محاولة للحفاظ على الريادة المصرية فى التعليم الجامعى، خصوصا فى ظروف تنافسية شديدة الصعوبة، لابد من الاهتمام بإدخال الدراسات العليا لمنح درجات علمية متقدمة كأداة جذب للطالب المصرى والعربى. د. جمال نوارة: الجامعات الخاصة «تهريج» والمعاهد العليا «دكاكين» أوضاع كثيرة مغلوطة أفقدت التعليم الجامعى الخاص ريادته بالمنطقة، حتى تحول الأمر إلى «تهريج» على حد تعبير د. جمال نوارة، أمين عام الجامعات الخاصة والأهلية، الذى يؤكد تضاؤل التوافد العربى إلى نسبة ٪10، تستثنى منها الكليات العملية، خصوصا بعد أن لحقت الدول العربية خصوصا دول الخليج بسباق التعليم والتوسع الرأسى والأفقى فى إنشاء جامعات خاصة وفق معايير جودة عالمية، ودأبها المحموم للحفاظ على سمعة عربية ودولية مميزة بالتواصل مع هيئات جودة دولية فى أمريكا وإنجلترا وألمانيا وغيرهم لاعتماد جودة المنتج التعليمى، وهذا ما ينقص التعليم الجامعى فى مصر، حيث يكتفى باعتماد المجلس الأعلى للجامعات والحصول على معادلة مناظرة للجامعات الحكومية دون بذل أدنى جهد لتوفير معايير الجودة المحلية والحصول على شهادات اعتماد وفق نسق علمى مبرمج. وبالتدقيق فى أوضاع الجامعات الخاصة نجدها للأسف معولا لهدم الدولة لأمور عدة يرصدها الدكتور جمال نوارة فى عدم الالتزام. بإعداد كوادر بشرية مؤهلة وخاصة بكل جامعة ممثلة فى هيئات التدريس، والاعتماد على كوادر الجامعات الحكومية من العناصر المميزة، الأمر الذى أدى إلى تفريغ هذه الجامعات فى خطة غير محسوبة لتخريب التعليم الحكومى والخاص أيضا، الذى يجب أن يبدأ بخطة لإعداد هيئة تدريس متكاملة وابتعاث العناصر المميزة داخليا وخارجيا، على أن يكون هذا شرطا أساسيا للحصول على ترخيص التشغيل، والعقبة الثانية فى النهوض بهذا النوع من التعليم تتمثل فى المحتوى العلمى والمناهج التى لا يعدو الحديث عنها سوى كلام للشهرة، فرغم أن القرار الجمهورى يشترط وجود تخصصات جديدة بالتعليم الخاص، فإن حقيقة الواقع الصادم تؤكد عدم الالتزام بهذه الاشتراطات وتحليل المناهج تجدها مجرد عناوين تحت مسميات حديثة، والمحتوى للأسف محلى وقديم للغاية ليكتمل المشهد المأساوى لواقع التعليم فى مصر خصوصا أن المنتج التعليمى ما قبل الجامعى فاسد فى حد ذاته ومع استمرار الأوضاع على هذا النحو بالتعليم العالى، فمن الصعوبة استعادة عوامل الجذب العربى. ويزداد الأمر سوءا للأوضاع المختلة للمعاهد العليا الخاصة التى تحولت إلى مجرد «دكاكين» يجب إغلاقها فورا، وسحب تراخيصها بل ووضعها تحت الإشراف المالى والإدارى لوزارة التعليم العالى، خصوصا أنها كائن ضعيف علميا.