(الوعى ذلك كنز عظيم) هبة، ومكمن عظمتها اختصاص الإنسان بها، فهى ما تميزه عن الحيوان، هى ذلك التفكير المحلل المنطقى المتأمل المحدد ما بين ما نتعلمه ونكتسبه طوال حياتنا، وبين ما يدركه كل إنسان وتحويله لوعى ذاتى ينتج عنه تفكير مجرد وإبداع ووجهة نظر خاصة، وإرادة ذاتية حرة وتخطيط للمستقبل. وكلما زاد الوعى الإنسانى تلقائياً نصل لأعلى مراتب الإنسانية. تحضرنى حكمة قديمة للغاية كانت ولا تزال تشكل وعيا لازمنى طوال حياتى (ارتقى الحيوان فصار إنسانا وارتقى الإنسان فصار فنانا) أى أعلى مراتب الإنسانية. للوعى منافذ مهمة هى الإحساس (الحواس) حواس الإنسان الخمس، فهى لم تخلق هباء، فهناك دائما هدف من وراء كل نعمة، عملية تنظيمية بين ما تدركه من معطيات وفهمها ودلالاتها واستحضارها فى وقت الحاجة. هناك أنواع من الوعى، وعى سلبى ووعى إيجابى. فكل ما يفيد الإنسان والمجتمع ويسهم فى تطوره ومعالجة سلبياته، فنحن أمام وعى إيجابى متيقظ حساس وواع مدرك لأخطاء من حوله، وكون رؤية ومفهوماً ولديه حماسة لحلهما. أما مفهوم الوعى السلبى إذا جاز لنا أن نطلق عليه ذلك، فهو معرفة الفرق بين الصحيح والخاطئ، لكن لا يستوقفه تقييد الإيجابيات. والمجتمعات الواعية هى التى تحرص على المعرفة المشتركة، وتدرك قيمتها فى طريق نهضتها، وتقيم وتضع اعتبارا للخصائص الانعكاسية لوعيها بناء على خبرات. من أجمل التفسيرات التى أعجبتنى لماركس (ليس وعى البشر هو الذى يحدد وجودهم بل على العكس الوعى المجتمعى) . إذن أساس تقدم وتحضر أى أمة فى العالم هو حصيلة الأفكار والنظريات والتقاليد والعادات الاجتماعية، وكلما وجدت أمة متقدمة متطورة تعلو فيها قيم الإنسانية والعلم والثقافة والفن، تأكد تماماً أن لديها وعياً مجتمعيا إيجابيا. ليس من مصلحة البشرية أن يكون الإنسان تابعا لشخص أو فكرة أو رأى واحد، فمن الجمود والتخلف أن تسجن عقلك وتحدد له دائرة مغلقة ليس لها طريق واضح، فالاختلاف والتناقض بيننا كبشر هما العلاقة الطبيعية لأى تقدم إنسانى، هو إفراز كل أفكارهم واختراعاتهم فى الحياة من كل العلوم والطب والهندسة.... إلخ، أنت ترى آفاقا وعوالم جديدة مختلفة فى عقول الآخرين تنير لك وعيك. إذا ما أخذنا مثالا لوعى مجتمع ما فى أى منطقة بمجرد النظر إلى سلوك شعب معين، فمن السهل أن ندرك أى بلد يتبع، فالوعى العذرى هنا أثر على السلوك العام المجتمعى وتخطى العذرية فى أفعال الآخرين . يكفى أن أنبهك عزيز القارئ، أن اللا وعى يتضح جلياً فى مجتمعات بذاتها تراها تتحكم فيها الطائفية والعنصرية والتشدد الدينى والخرافات والسحر والأنانية وانحدار الثقافة والحوار المجتمعى الهادئ. إذا أردنا وعيا ناضجا مثقفا يفرز لنا بيئة اجتماعية صحية وتقدما وازدهارا، لا بد أن نتخطى المعارف المحدودة، ونتجه لمعرفة العالم من حولنا من تطورات وتجارب وأبحاث، لا بد أن يرتبط الأفراد بمجتمعهم، يتعاونون ويتواصلون بتجرد، ويعيدون خلق حالة التجاوب المجتمعى لإعلاء القيم والمثل والفضائل وتوجيه الخبرات للتقدم للمستقبل . وقد يتساءل الكثيرون منا ماذا حدث لمجتمعنا؟ ما سر انتشار كل هذه العشوائيات الفكرية، الأخلاقية، كيف وصلت بنا الحال إلى كل هذا التدهور والانحطاط والأنانية والفساد والتطاول والشتائم؟ ما سر انتشار عدوى البلطجة فى مجتمعنا؟ كيف تحول المثل والقدوة من العالم أو المفكر، والأديب، والفيلسوف، إلى المنحرف والمدمن والمرتشى؟ كل هذه التساؤلات إجابتها واحدة (الوعى)، فلا يهم أن تكون أنت وأسرتك وبعض من أصدقائك أو معارفك المحددة على درجة عالية من الوعى، بل الأهم هو تأثير وعيك على المجتمع ككل، وكيف يتفاعل على سلوكه ويؤثر فيه. للأسف، وبكل الحزن قد تخطينا مرحلة تغيير الوعى المجتمعى بشكل مزر، فكل هذه الظواهر وتحولها لحقائق ملموسة أصبح يستدعى خططا إستراتيجية بعيدة المدى من أساتذة علم نفس واجتماع وتخطيط لإنقاذ هذا المجتمع، وإذا لزم الأمر - وإنه ملح الآن، وأعتقد أنه ملح الآن – وضع قانون (الأخلاق) وفرض عقوبات لتحقيق التوازن الإنسانى وإعادة الاحترام وفرض المبادئ.. قد تبدو الفكرة تثير الضحك! ولكن أذكرك أن معظم الدول المتقدمة لديها قوانين تحمى بها مجتمعاتها من السقوط أو التخلى عن أعرافها.. (ما أقسى) أن نفقد أصولنا الإنسانية ونتحول إلى غابة لتضحك علينا بقية الأمم وننزلق لأدنى درجات التخلف والانحدار الإنسانى!.. أم نفرض الأخلاق بالقانون لننجو بمجتمع صارت نسبة المغيبين فيه فى ازدياد؟