منذ اللحظة الأولى لانطلاقها عملت على إزالة العقبات التى تحول دون المساهمة الجادة لرأس المال الخاص يقول الرئيس جمال عبد الناصر فى فلسفة الثورة : «وأنا أنظر أحيانا إلى أسرة مصرية عادية من آلاف الأسر التى تعيش فى العاصمة: الأب فلاح معمم من صميم الريف والأم سيدة منحدرة من أصل تركى وأبناء الأسرة فى مدارس على النظام الإنجليزى، وفتياتها فى مدارس على النظام الفرنسى، كل هذا بين روح القرن الثالث عشر ومظاهر القرن العشرين، أنظر إلى هذا وأحس فى أعماقى بفهم للحيرة التى نقاسيها وللتخبط الذى يفترسنا ثم أقول لنفسى: سوف يتبلور هذا المجتمع، سوف يتماسك وسوف يكون وحدة واحدة قوية متجانسة، وإنما ينبغى أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال»، هكذا وضع جمال عبد الناصر إصبعه على حقيقة المشكلة التى بدأت تتضح فى التسعينيات من القرن العشرين أنها تشكل جوهر التنمية، وهى بناء المجتمع السليم الذى ينتفى فيه اغتراب الفرد ويختفى منه التسلط سواء الملكى بطغيان الملكية المسنودة من الاستعمار أم الإقطاعى الذى يستغل الشريحة الكبرى من المواطنين التى تعيش على قطاع الزراعة أو الرأسمالى المحتكر. وعندما تساءل عبد الناصر عن الطريق كانت الإجابة واضحة: «الحرية السياسية والحرية الاقتصادية». الخطوة الأولى كانت إذن وضع دستور معبر عن إرادة شعبية، ولقد تضمن الدستور عددا من المواد رسمت المعالم الاقتصادية للمجتمع الجديد. ويجب أن يكون واضحا، أن الحوار القائم حول المفاضلة بين القطاع العام والقطاع الخاص هو حوار مضلل، فقد آمنت الثورة منذ البداية بدور مهم للقطاع الخاص، كما أنها عندما أقامت القطاع العام لأسباب موضوعية سبق بيانها، عهدت إليه بقيادة التنمية لا الانفراد بها.
وكما علّمنا عبد الناصر فإن الحل ليس فى إعلاء النزعة الفردية التى يجعل منها أنصار الليبرالية المرشد المقدس للحركة، ويغذيها أنصار السلفية بدفع الفرد لضرب الدولة والمجتمع بزعم النجاة من عذاب الآخرة، بل إن الأساس هو بناء المجتمع الذى تذوب فيه الفوارق بين الطبقات.
وانتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر اعتبره على جانب كبير من الأهمية فى مجال رؤية الرئيس جمال عبد الناصر للتنمية، ألا وهو ثورة 23 يوليو وبناء الصناعة المستقلة، لذلك كان القرار بإنشاء مجلس أعلى للتخطيط ثم إنشاء مجلس الإنتاج القومى ومجلس الخدمات .
وكما هو معلوم كان المحصول الرئيسى هو القطن الذى يصدر منه أكثر من 80% إلى بريطانيا بالذات، والباقى يستخدم فى صناعات مبتدئة تنتج أجزاء من المنسوجات التى تستهلك محليا. وكانت المشكلة الزراعية، ولا تزال، هى أن المساحة التى يمكن زراعتها محدودة بكميات المياه التى يوفرها نهر النيل وهى نحو ستة ملايين فدان، وبالتالى لم يكن هناك مجالات للتوسع عن طريق استصلاح أراض جديدة إلا فى أضيق الحدود، نظرا لأن السد العالى لم يكن قد أقيم بعد .
كانت هناك باستمرار تكليفات بدراسات فنية وعلمية فى محاولة من الثورة لزيادة الإنتاج الزراعى بزيادة الرقعة المزروعة عن طريق توفير كميات إضافية من المياه عن طريق بناء السد العالى، وهو ما سمح باستصلاح مليون فدان جديدة وفى نفس الوقت محولات لزيادة الإنتاج بزيادة إنتاجية الفدان أى بزيادة رأسية، وذلك عن طريق رفع إنتاجية الأرض بوسائل مختلفة مثل تحسين الصرف وبالبذور المحسنة والتسميد وزيادة كفاءة المقاومة للآفات الزراعية .
لقد استصلحت الثورة مليون فدان فى خلال 12 عاما، وكان معدل استصلاح الأراضى قبل الثورة أقل من 5000 فدان سنويا، أقيم السد العالى، أقيمت آلاف المدارس، كما أقيمت أكبر قاعدة صناعية فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا كلها. وبعد أن كنا نستورد تقريبا كل شىء، أصبحنا نعتمد على أنفسنا وننتج معظم ما نحتاجه. أقمنا مصانع الحديد والصلب والألومنيوم والترسانات البحرية والسيارات واللوارى والإطارات والإسمنت والأسمدة والغزل والنسيج والورق وغيرها . ولولا هذه القاعدة الإنتاجية ما كان ممكنا أن ندخل حرب أكتوبر معتمدين على أنفسنا وإنتاجنا، فلم تحدث أزمات ولم تصدر بطاقات ولم يحس الشعب بأى نقص نتيجة للحرب، ونفس الشىء حدث فى أعقاب نكسة 67 التى ترتب عليها أن زاد التصميم على السير فى خطين متوازيين فى وقت واحد، وهما إعادة بناء القوات المسلحة والاستمرار فى التنمية الشاملة. وإذا كانت الكوارث التى لا تقتل ولا تصنع، فإن نكسة 1967 صنعتنا مرة أخرى تماما صمدنا وكان القطاع العام هو الأرض الصلبة التى واصلنا بها السير إلى حرب الاستنزاف فنصر أكتوبر .
أما بالنسبة للصناعة فقد كان هناك عدد محدود من المصانع، بعض مصانع للغزل والنسيج، وبعض مصانع للسكر وعدد من معاصر الزيوت ومصنعان للأسمنت فى حلوان وطره ومصنع لسماد الفوسفات وآخر للسماد الآزوتى، ومصانع صغيرة لإنتاج الحديد للتسليح من الخردة ثم بعض المصانع اليدوية والحرفية الصغيرة .
عندما قامت ثورة يوليو كانت نسبة الإنتاج الصناعى إلى الإنتاج القومى أقل من 10%. وكانت مصر تعتمد على الاستيراد من الخارج لمعظم احتياجاتها من السلع المصنوعة. فى أول يوليو 1956 أنشئت وزارة الصناعة وعين الدكتور عزيز صدقى كأول وزير للصناعة.
كانت رؤية وزارة الصناعة تتمثل فى وجوب أن يكون هناك خطة تحدد نواحى التنمية الصناعية فى شكل برنامج يتضمن المشروعات المحددة التى يجب تنفيذها، وأنه يجب أن تكون للدولة الصلاحية لتوجيه الاستثمار فى الصناعة بحيث تسير عملية التنمية فى حدود خطة واضحة.
وكان واضحا أن الثورة قد اختارت طريقها ومنذ البداية وانحازت إلى جانب الشعب والقوى العاملة. وكان يحكم هذه السياسة منذ البداية إقامة قاعدة صناعية حقيقية تفتح آفاق التنمية والإنتاج وتحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى وضعتها الثورة من البداية.
كان أول اعتماد مالى فى تاريخ مصر للاستثمار فى الصناعة هو 12 مليون جنيه اعتمدت فى ميزانية الصناعة عام 1958، وسارت عجلة التنمية بقوة، وتم تنفيذ مشروع السنوات الخمس الأول فى ثلاث سنوات، وعلى ضوء النجاح الذى تحقق تقرر وضع الخطة الخمسية الأولى شاملة للتنمية 59 1964 .
أنشئت وزارة التخطيط واعتمدت الدولة مبدأ التخطيط الشامل أسلوبا للتنمية والتقدم .
وبدأ يظهر فى ميزانية الدولة باب الاستثمارات لتنفيذ مشروعات الخطة، وتزايدت أرقامها بحيث أصبحت أهم باب فى الميزانية بما تمثله من استثمارات فى تنفيذ السد العالى واستصلاح الأراضى ومشروعات الطرق والمواصلات والكهرباء وإقامة المصانع . وأصبحت الدولة الممول الأكبر لمشروعات التنمية، وبالتالى المالكة لهذه المشروعات وأصبح عليها مسئولية إدارة هذه المشروعات فأنشأت المؤسسات العامة، وتبعت لها الشركات الداخلة فى نوعية عملها ثم صدرت قرارات التأميم لبعض الشركات والمنشآت القائمة استكمالا لسيطرة الدولة على الإنتاج، وهكذا ولد القطاع العام . إن مصر بأبنائها وحدهم وإرادتها الحرة هى التى وضعت سياسة التصنيع وبرامجها ومشروعاتها، ولم يشارك أجنبى واحد فى ذلك، كما أن تنفيذ هذه السياسة ومشروعاتها تم بأيدى الفنيين والعمال المصريين، ثم هم الذين تولوا إدارة هذا الإنتاج الضخم .
كما أن الدولة عندما خصصت الاعتمادات الضخمة فى ميزانياتها سنة بعد سنة لتنفيذ هدف التنمية برغم الظروف الصعبة التى اجتازتها البلاد اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، فإنها كانت تفعل ذلك إيمانا منها بأهمية عملية التنمية لتحقيق أهداف الثورة الكبرى .
وللأسف فإنه فى فترة ما سمى بالانفتاح، توقفت بالكامل تقريبا عملية التنمية الصناعية وقيل إن الاستثمار الأجنبى سيحل المشكلة وهو ما لم يحدث طبعا.
وكان التعاقد على تنفيذ المشروعات مع كل دولة قدمت لمصر التسهيلات والقروض وبالشروط التى وضعتها مصر وقبلتها، وقد أدى هذا الأسلوب إلى نجاح فى الحصول على قروض واتفاقيات مع الاتحاد السوفيتى والعديد من دول العالم. وعاون الاتحاد السوفيتى فى تنفيذ مشروعات كبرى ما كان يمكن أن نستطيع تنفيذها عن طريق دول أخرى.
لقد بدأ تنفيذ خطة السنوات الخمس للصناعة منذ عام 1958، وبذلك تكوّن قطاع عام من شركات آلت إليه عن طريق التأميم وأخرى أقامتها الدولة بتمويل كامل منها . والكثيرون لا يعلمون أن الجزء الذى يمثل ما أمم من أصول بالنسبة إلى القطاع العام اليوم لا يمثل أكثر من 15% أو 20% بل ليس حتى فى هذه الشركات آلة واحدة مما كان قائما وقت التأميم، لأن عمليات التجديد والتوسع المستمرة طورت هذه المصانع إلى أن أصبحت على ما هى عليه اليوم .
يبيعون القطاع العام.. فلمن يباع؟ ولصالح من؟ لقد كان نصيب القطاع العام فى سنة 1970 من الإنتاج الصناعى 75% و25% للقطاع الخاص . وبعد خمسة عشر عاما حورب فيها القطاع العام ومنعت عنه الاستثمارات، خصوصا تلك اللازمة لتحديثه أو توفير احتياجاته من قطع الغيار فإن نسبة القطاع العام لا تزال كما هى 75% من الإنتاج الصناعى . وفى نفس الوقت فلم يقام مصنع واحد للصناعات الثقيلة، حتى العدد المحدود منها من المصانع التى أنشئت كانت نسبة مساهمة القطاع العام فى رأس مال المشروعات قامت فى فترة ما يسمى بالانفتاح 60%. إن من بديهيات آليات عملية تصنيع حقيقية تستلزم إقامة قاعدة صناعية متكاملة تشمل صناعات أساسية قد لا تكون، مما يحقق ربحا كبيرا كصناعة الصلب مثلا، وهذه لن تشجع المستثمر أن يضع أمواله فى مثل هذه المشروعات.