شريف رزق مات.. لعلها المرة الأولى حين التقيته في إحدى الندوات الأدبية بكلية الآداب جامعة المنوفية، لكنها بالتأكيد كانت المرة الثانية التي نلتقي فيها في مكتبة القاهرة الكبرى، أثناء توزيع جوائز مسابقة "أخبار الأدب" في زحمة الأفراح، سمعته يردد في أذني الشاعر والناقد عبد العزيز موافي: الآن تأكدت من صدق كلامك، كان موافي عضوا في لجنة التحكيم، وكان يقول إن صلاح فضل رفض تماما أن يمنح المركز الأول لقصيدة النثر، حتى لا يقال إن قصيدة التفعيلة ماتت في مصر. مات شريف رزق ولا يزال صلاح فضل يدعى للتحكيم في جوائز خليجية قيمتها بالملايين، مات شريف رزق لأنه ينتمي إلى بلد لا يحب الشعر، لذا أصابه نزيف في المخ، لم يحتمله لمدة ثلاثة أيام، ولم تتحرك وزارة الثقافة لمد يد العون، رغم أن وزير الثقافة حلمي النمنم داعبه، أثناء تسلم جائزة معرض الكتاب العام الفائت قائلا: "أظن كدا يا شريف قصيدة النثر لم تعد مهمشة". مات شريف رزق، وحتى الآن لا أذكر اللحظة التي ربطت بيننا صديقين، فقد تكررت اللقاءات رغم أنه ظل يقيم في بلدته لا يغادرها إلى القاهرة إلا للمشاركة في أمسية شعرية أو نقدية، وكنت دائما أستعين به في الحوارات والتحقيقات الصحفية، ومن بينها هذا الحوار الذي لم يسعفني الوقت لنشره في حياته، وقد فضل أن يجيب عن الأسئلة على شكل شهادة حول علاقته بالكتب وكيف تطورت. شريف رزق يتحدث معنا عن مكتبته وكيف تكونت وتطورت على مر سنوات النضج. (1) الكتاب الأوَّل، الذي قرأته كاملا، خارج الكتب المدرسيَّة المقرَّرة، هو رواية: "الكرنك"، لنجيب محفوظ، كنت في نحو الثَّالثة عشرة من عمري، برفقة أبي، في قرية تلوانة؛ القريبة من مدينة منوف؛ بلدي، وتصادف أن وجدت رواية" الكرنك"، في المنزل الذي كنَّا نقيم فيه أنا وأبي، جذبتني الرِّواية بإخراجها المُميَّز، ولم أكد أشرع في قراءتها حتَّى وجدتني أمام عالمٍ شدَّني إليه بقوَّة، لقد فتحت لي هذه الرِّواية عوالم أخرى، غير العوالم الإنشائيَّة في أدب الدِّراسة التَّعليميَّة، أنهيتُها وقد عقدت العزم على الوصول إلى بقيَّة أعمال نجيب محفوظ، بعدها وجدت روايته:" الطَّريق"، لم أنم ليلتها حتَّى انتهيت منها مع مطالع الصَّباح، كان الشَّوق إلى المجهول، وطريقة السَّرد، والتَّفاصيل الإنسانيَّة المكثَّفة، تستولي عليَّ، ثم قرأت:" الحرافيش"، وكان أبي يُشاركني عشقَ نجيب محفوظ، غير أنَّه كان يتابعه في أعماله في صيغِها السِّينمائيَّة والإذاعيَّة، ويومًا بعد يوم بدأتُ أتيقَّن أنَّ هذا الطَّريق هو الذي خُلقتُ له في الأساس؛ وقد شرعت حينئذٍ في كتابة نصوصٍ من حياتي المعيشة في صور أقاصيص، وكانت متعة القراءة، ومتابعة كل ما تصل إليه يداي من إبداعات عربيَّة ومترجمة لا تعدلها متعة، فتنني يوسف إدريس في: "بيت من لحم"، وكانت مدخلي لعوالمه الإنسانيَّة الحيَّة، وسرده الشِّفاهيِّ الذي يلتحم بلغة الحياة المعيشة.. وتأكَّدت تمامًا أنَّ الأدب الحقيقيَّ لا مكان له في الكتب التَّعليميَّة؛ وأنَّها فقط وسيلة لتعليم الإنشاء الأدبيِّ والسَّلامة اللغويَّة والنَّحويَّة، أمَّا طه حسين فقد فتنني بتموُّجات أسلوبه، وأحببت له الجزء الأوَّل من: "الأيَّام"، و:"المعذَّبون في الأرض"، والعديد من فصول:"على هامش السِّيرة"، وأبرز الأعمال العالمية المترجمة التي قرأتُها في هذه الآونة: "البؤساء" لفيكتور هوجو، و: "الجريمة والعقاب" لديستوفسكي، وله أيضا: "ذكريات بيت الموتى"، أما تشيكوف فقد فتنني بحضوره الإنسانيِّ الباذخ، أمَّا جبران خليل جبران فقد فتنني بروحانيَّته الغنائيَّة الرّسوليَّة، وأحببت له: "الأجنحة المتكسرة" و:"النَّبي". وشيئا فشيئًا بدأت أستكمل أعمالَ هؤلاء، وأقرانهم، وبدأت أعيش داخل مكتبة. (2) وتصادف أن قرأت كتاب نيكلسون: "في التَّصوُّف الإسلامي" بترجمة أبي العلا عفيفي، ففتح أمامي آفاقًا جديدة، وقرأت: "المواقف والمخاطبات"، و"اللُمع" للطُّوسي، و"جامع كرامات الأولياء" للنَّبهاني، وبدأت مكتبة التَّصوُّف الإسلامي تأخذ مكانَها، وتتنامى، في مكتبتي. أما الشَّاعر الذي أخرجني من المنظومات الشِّعريَّة المدرسيَّة الجافة فهو نزار قباني؛ كان تحرُّر اللغة الشِّعريَّة عنده، وغنائيَّته المتدفِّقة، وارتباطه بالمعيش مُدهشًا لي، ومن نزار كانت خطوة أخرى في مشهد الشِّعريَّة العربيَّة الجديدة مع صلاح عبد الصَّبور والسَّياب ومحمود درويش وأمل دنقل، أمَّا أدونيس ، والذين معه، فقد فتحوا آفاقًا أخرى أمامي، بدت فيها المغامرة اللغويَّة، والتَّجريب الشِّعريّ في شكل وبنية القصيدة، ومن بين هذا التَّيَّار فتنني عفيفي مطر أكثر؛ بخصوصيَّته واستقلال خطابه.. وبدأت المكتبة تتَّسع أكثر بأعمال هذا الفريق، وبالتُّراث الشِّعريّ المتنوِّع، في تحوُّلاته في مشهد الشِّعريَّة العربيَّة، منذ العصر الجاهليِّ، حتَّى وقتنا الرَّاهن، كذلك في مشهد الشِّعريَّة الأوروأمريكيَّة، وأخذت كتب علم الجمال، ونظريَّات النَّقد والدِّراسات الأدبيَّة، تأخذ أماكنَها في المكتبة. (3) بدأت أقسام المكتبة تتحدَّد؛ الرِّوايات، وكتب الأدب، والموسوعات الأدبيَّة، وكتب التُّراث الأدبيّ، وقسم الشِّعر، وقسم النَّقد، والعقائد، والفلسفة، والدَّوريات الأدبيَّة.. (4) خصَّصت في المكتبة قسمًا وضعت فيه، في البداية، منشوراتي في الدَّوريَّات الأدبيَّة العربيَّة، ثم اتَّسع ليتضمَّن نسخًا من كتبي الشِّعريَّة والنَّقديَّة، وما كُتبَ عنِّي. (5) كبرت المكتبة، وضاق بها المكان، وأصبحتُ أتخلَّص من الكتب التي لا أرى أنَّني سأعود إليها من جديد، وأصبحت المكتبة موزَّعة بين شقَّتي وبيت والدي، وأصبحت الحاجة مُلحَّة لوجود مكان أوسع خاصٍّ بالمكتبة وحدَها. (5) وإلى أركان المكتبة، جدَّت مكتبتي الألكترونيَّة، وهيَ تضمُّ آلاف الكتب، من ثقافاتٍ متعدِّدة، وأجعلها مكتبةً محمولةً معي في الغالب، وقد تعوَّدت على المكتبة الألكترونيَّة، ولا أرى صراعًا بينها وبين المكتبة الورقيَّة، ولا أحبُّ المفاضلة بينهما. (5) أحيانًا كثيرةً أنظر إلى الكتب، وإلى الجديد الكثير الذي ينتظر القراءةَ، وأخشى على المكتبةِ من بعدي، وأتذكَّر منزلة المكتبة في حياة عفيفي مطر، وما حدث لها من بعده، ومكتبة أحمد زرزور، ومكتبات العديد من أصدقائي المبدعين؛ التي رحلت برحيلهم، أُفكِّر كثيرًا أن أوصي بها؛ لتحيا من بعدي، وأعلم أنَّها لن تهمَّ إلاَّ أمثالي من المعنيِّين بها! برواز شريف رزق شاعر وناقد مصري، بدأ نشر أشعاره منذُ أواخر الثَّمانينيَّات من القرن الماضِي، في مصرَ وغيرها من الدِّول العربيَّة، وقد فارق الحياة يوم 14 يونيو 2017. - أصدر الأعمالَ الشِّعرية: عُزلةُ الأنقاض، طبعة أولى: 1994. لا تُطفِئ العتمة، طبعه أولي:1996. مجرَّةُ النِّهايات، طبعة أولى:1999. الجثَّة الأولى، طبعة أولى:2001. حيواتٌ مفقودة، طبعة أولى:200، طبعة ثانية:2010. أنتَ أيُّها السَّهو، أنتَ يا مَهبَّ العائلةِ الأخِيرَةِ، طبعة أولى: 2014. هواء العائلة، طبعة أولى: 2016، طبعة ثانية: 2016. - وأصدرَ الأعمالَ النَّقديَّة: 1 شِعرُ النَّثر العربيِّ في القرنِ العشرين: طبعة أولى: 2010. 2 قصيدَةُ النَّثرِ في مشهدِ الشِّعرِ العربيِّ: طبعة أولى: 2010. 3 آفاقُ الشِّعريةِ العربيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ: طبعة أولى:2011، طبعة ثانية : 2015. 4 قصيدَةُ النَّثرِ المصريَّةِ: شعريَّاتُ المشهدِ الجديدِ: طبعة أولى:2016، طبعة ثانية: 2016. 5 الأشكالُ النَّثرشعريَّةُ في الأدبِ العربيِّ ، طبعة أولى: 2014. 6 شعريَّة الحياةِ اليوميَّة والخطاب الشِّفاهيِّ، في قصيدة النَّثر العربيَّة الجديدة: طبعة أولى:2016. 7- شعريَّاتُ مَا بَعْدَ "شِعْر": قصيدَةُ النَّثرِ العربيَّةِ في السَّبعينيَّاتِ والثَّمانينيَّاتِ. 8 - تحوّلات القصيدة العربيَّةِ عَبْر العصور. - تُرجِمتْ أشعارٌ له إلى اللغة الإنجليزيَّة والفَرنسِيَّةِ، وتمَّ تدريسُ بعضها في الجامعاتِ المصريَّةِ، وتناولتْهَا العديدُ من الدِّراسات النَّقديَّة والأطروحاتِ الجامعيَّة. - سَاهمَ في تحرير مجلَّة (الشِّعر) تحت رئاسة تحرير خيري شلبي، فى الفترة من أكتوبر 1993 حتَّى أكتوبر1998 . - سَاهمَ في تأسيسِ مُلتقى قصيدة النَّثر، وترأسَ اللجنةَ العلميَّةَ به. - سَاهمَ في تأسيس مجلَّة: "الحوزة الشِّعريَّة"، مع شاكر لعيبي وآخرين، صدرت في بغداد. - اخْتِيرَ عضوًا في لجنة الشِّعر بالمجلس الأعلى للثَّقافة. - قامَ بالتَّحكيم في جوائز اتِّحاد الكُتَّاب، وجائزة الدَّولة في الشِّعر. - شارك في العديد من المؤتمراتِ الأدبيَّة المحليَّة والعربيَّة شاعرًا وباحثًا؛ منها مؤتمرُ اتِّحاد الكُتَّاب العَرَب بالقاهرة 2006؛ حيثُ شَارَكَ فيْهِ باحثًا وشَاعرًا، ومؤتمرُ تحوُّلاتِ الشِّعرِ المِصريِّ الرَّاهن، الَّذي عُقِدَ بالمجلسِ الأعلى للثَّقافة، في نوفمبر 2012 وكانَ عضوَ أمانَةِ المؤتمر. - كَّرمه المؤتمر العام لأدباء مصر في يوم 25 من ديسمبر 2016، لدوره في إثراء الحركة النَّقدية المصريَّة وعن مسرته النَّقديَّة كما إنه فاز بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثانية والأربعين.