القاعدة الذهبية التي كرستها ثورة 30 يونيو: أن الفوضى في مصر لها ثمن يدفعه العالم .. وإذا كان تجاهل القيمة الجيوستراتيجية للدولة المصرية غباء.. فإن التغاضي عن هذه القيمة هو خداع للذات.. وماهو جيوستراتيجي يقصد به عادة، الأثر الذي تقوم به الجغرافيا في تشكيل أو منع أو حتى مجرد إحداث التفاعل في السياسات الدولية.. فما بالنا عندما يتعلق الأمر بدولة ترتبط بها مصائر دول كثيرة في الشرق والغرب .. كالدولة المصرية التي (على سبيل المثال) يمرعبر جغرافيتها 12 بالمائة من إجمالي التجارة العالمية و 22 بالمائة من حاويات البضائع وناقلات النفط .. أن التجاهل أو التغاضي عن أمن واستقرار بلد كهذه معناه الخراب في جغرافيات متعددة في الشرق والغرب وبالذات دول أوروبا التي تستورد 80 بالمائة من الغاز المسال اللازم لها في الصناعة والتدفئة عبر قناة السويس وأبرزها بريطانيا وبلجيكا وإيطاليا .. بينما تعتمد تركيا وفرنسا والولاياتالمتحدة على ذات القناة في استيراد ربع احتياجاتها من الغاز المسال، وفق بيانات الهيئة الأمريكية لمعلومات الطاقة.. الدرس الواضح هنا : مجرد هز استقرار الدولة المصرية سيكون له وقع فادح على أمن الطاقة في العالم .. بخلاف ارتفاع أسعار النفط.
السطر التالي في القاعدة الذهبية، أن الجيش المصري هو ضمانة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهذه الدولة.. فهو الذي يحمي دون سواه قناة السويس، والأهم هو أنه يحمي سوميد وهو خط أنابيب لنقل النفط ما بين السويس والمتوسط تملكه شركة خطوط الأنابيب العربية، والتي تتشكل من الهيئة المصرية العامة للبترول وشركة أرامكو السعودية وشركة أبوظبي الوطنية للنفط (أدنوك) وعدد من المؤسسات الكويتية .. وهذا الخط كان موضعا لاستهداف الجماعات السلفية الجهادية بنشاط كبير في أعقاب رحيل مبارك عن السلطة في فبراير 2011 .. الخلاصة هنا: الجيش المصري هو ضمانة لاستقرار الصناعة والتجارة والتنمية في العالم.
ومع كل ذلك كان هناك من يتواطأ على الجيش المصري، وكان هناك من يتربص به (ولا يزال) وما كان زلزال 30 يونيو الا مجرد تنبيه لخطورة خداع الذات في السياسات العالمية التي نسيت كل قيمة جيوستراتيجية لمصر، وباتت تفكر في إخضاعها بشتى الوسائل لمشروعات وهمية .. بعضها كاريكاتوري .. كمشروع إحياء الخلافة العثمانية!!
من السطر الأول
لم تكن رسالة تنحي مبارك عن السلطة قد ظهرت بعد على شاشات التليفزيون، عندما صرح ليون بانيتا رئيس وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك لصحيفة الواشنطن يوست، أن رجال الوكالة في محطة القاهرة يواجهون مأزقا كبيرا: أنهم لا يعرفون على صفة اليقين من الذي (يدفع) الجماهير في الشوارع أو حتى ( يجرهم) إليها .. وبرغم ذلك كانت واشنطن تتصور أنها تملك القصة الحقيقية لما حدث في ميدان التحرير والأكثر إثارة، أنها كانت تتصور أنها تملك مفاتيح مستقبل كل ما يدور و سيدور في الدولة المصرية!!
وهذا وهم كشفته صدمة إدارة أوباما المروعة عندما ثار الشعب المصري من جديد في 2013 .. وذلك الارتباك الذي ساد الموقف الرسمي في العاصمة الأمريكية تجاه ما تلى من أحداث، يروي قصة أخرى عن أمريكا التي خدعت نفسها بنفسها.. من أول السطر!!
ففي الأربعاء 13 إبريل 2011 وأمام اللجنة الدائمة للمخابرات بالكونجرس واللجان التابعة لشئون الإرهاب والاستخبارات البشرية ومكافحة التجسس .. كان الدكتور روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى يلقى شهادة مهمة عنوانها: الإخوان المسلمون والتيار الإسلامي وآفاق عصر ما بعد مبارك.
كانت هذه الشهادة محض تقييم مبكر لما ستكون عليه الأحداث في دولة رأت واشنطن أنها قد انهارت بالفعل وأنها (أمريكا) صاحبة القرار النهائي في مصيرها، وعلى الرغم من أن هذا التاريخ كان تاليا على استفتاء جماهيري في مارس 2011 على إعلان دستوري برعاية المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية قدر عدد لا بأس به من الخبراء نتائجه على أنها في صالح علاقة الشارع بالجيش .. فإن واشنطن سارعت لتوجيه بؤرة تركيزها إلى الإخوان المسلمين.
تقول شهادة ساتلوف: بينما تركز الشهادة على الوجه المصري للإخوان المسلمين، فإنه من المهم ملاحظة أن الإخوان كانت دائما، وفي جوهرها، حركة دولية ترفض فكرة الدولة الوطنية، وتستهدف إعادة خلق الخلافة الإسلامية كغاية لها .. وبالرغم من عدم وجود رأس يدير الأنشطة المحلية والدولية فإن هناك صلات عقائدية وإيديولوجية وسياسية وإستراتيجية وشخصية تقوم بوصل حركة الإخوان المسلمين في مصر بشقيقاتها حول العالم، على سبيل المثال حركة المقاومة الإسلامية التي تعرف اختصارا باسم حماس والتي تعرف نفسها على أنها الجناح الفلسطيني للإخوان المسلمين!! لكن لماذا الإخوان دون غيرهم؟ .. يقول ساتلوف في تعريفه للسياق الذي تدور في فلكه هذه الشهادة وبالحرف: فيما يختص بسياسات ما بعد مبارك نعرف أن النشطاء الليبراليين هم الذين كانوا مسئولين عن الإقلاع بالثورة ولكن إلى حد بعيد، كان الإسلاميون والعسكريون هم المسئولون عن الهبوط .. بمعنى ان الشرارة التي أطلقت النشاط الثوري جاءت من قبل شباب علماني نظموا تظاهرات في عيد الشرطة باغتوا بها البوليس في 25 يناير .. لقد كان الإسلاميون أثقل حركة في الانضمام على الرغم من ذلك وإحساسا بالفرصة فقد ركبوا الموجة وخلال الأيام العشرة التالية عندما حاول النظام (تجريب) القوة العسكرية لتفريق المتظاهرين فإن القوى البشرية للمتظاهرين الأكثر فاعلية والأكثر تنظيما أتوا من مصدرين، الأول الإخوان المسلمين وحلفاؤهم الإسلاميين و الثاني ماكينات مشجعي الأندية الرياضية المزيتة جيدا وقوى أمن فرق كرة القدم (!!) وحده المصدر الأول هو الذي كان يملك اجندة سياسية وإستراتيجية و من اللحظة التي ألزم الإسلاميون أنفسهم بالقتال كان هدفهم هو أسر واستغلال ووراثة الثورة.
الإجابة التي يطرحها ساتلوف عن سؤال الإخوان هي أنهم القادرون على مواجهة القوة العسكرية في مصر .. ومن هنا بدأ خداع الذات في واشنطن .
الطريق إلى يونيو
لكن يظل المثير للانتباه في وثيقة شهادة ساتلوف ما يقره نصا: إذا ما أحرز الإخوان النفوذ السياسي، فإنهم وبالتأكيد سيستخدمون هذا النفوذ لتحويل مصر إلى مكان مختلف، قد يجعلون من مصر نموذجا لتركيا أردوغان، حيث يتم بالتدريج تحويل الدولة العلمانية إلى أخرى إسلامية .. الموقف الأكثر واقعية هو أن نرى مجتمعا أعمق في نمطيته الإسلامية بما في ذلك احتمال نمو طائفية مروعة ما بين المسلمين والأقباط، وربما يمكن أن نرى صراعا إسلاميا داخليا عميقا ما بين السلفيين والصوفيين.
المفاجأة الكبيرة في نهاية شهادة ساتلوف ما يقوله نصا: على الرغم من كل ذلك سيكون من الخطأ بالنسبة للولايات المتحدة أن تعمل تحت زعم أن تصعيد الإخوان للسلطة، هو أمر لا يمكن تفاديه بالنظر إلى البدائل السياسية الواسعة للبلاد . في الحقيقة أن مثل هذا الافتراض خطير للغاية و يمكن أن بفضي لتداعيات خطرة .. أن نظرة فاحصة لانتخابات 2005 و استفتاء مارس 2011 تكشف عن أن الإخوان لا يحوزون على دعم الأغلبية الحاكمة من الرأي العام المصري.
لقد كشف التقييم الأولي للموقف قبل أن يستولي الإخوان على السلطة في مصر، ومن وجهة نظر استخباراتية عن أن الإخوان خطر على المصالح الأمريكية لأنهم بسيطرتهم على الدولة سيقومون باستغلال الجغرافيا في تنفيذ سياسات تناقض الأهداف الأمريكية وأبرزها ضمان أمن إسرائيل وحربة الملاحة في قناة السويس.. والأهم أن الشهادة أثبتت أن الجيش المصري هو القوة الوحيدة الضامنة لوفاء مصر بالتزاماتها الدولية بما في التزاماتها في سياق العلاقات المصرية الأمريكية .. وليس الإخوان.
لكن الاختبار الأخطر لخداع الذات وانكشاف مدى خسارة واشنطن لتجاهلها الوضع الجيوستراتيجي للدولة المصرية، حدث أثناء حكم الإخوان عندما انتشر الإرهاب في سيناء ووصلت صواريخ الجهاديين إلى إيلات، وفي تقرير صدر بعد تقرير ساتلوف بعامين في 23 إبريل 2013 بمناسبة زيارة وزير الدفاع الأمريكي آنذاك شاك هاجل لمصر كتب ديفيد شينكر الباحث، ومدير برنامج السياسات العربية بنفس معهد واشنطن الذي يديره ساتلوف ما يلي نصا: على الرغم من أن الوزير هاجل سيعرب من دون شك عن مخاوف الولاياتالمتحدة بشأن المسار السياسي لمصر أثناء اجتماعه مع الرئيس مرسي، فإن التركيز الرئيسي لجولته ينبغي أن ينصب على قائمة طويلة من المسائل المرتبطة بالدفاع والتي لا يزال الجيش المصري يحتفظ بسلطة حصرية عليها. وفي ضوء هذا السياق، ينبغي أن يتضمن جدول أعمال هاجل مع وزير الدفاع السيسي التأكيد على أمن سيناء..وعلى الرغم من أن الهجوم الأخير على إيلات، الذي نفذته جماعة «مجلس شورى المجاهدين» القائمة في سيناء، لم يترتب عليه وقوع إصابات في صفوف الإسرائيليين، فإنه منذ يناير 2011 حاول الإرهابيون بشكل متكرر استهداف إسرائيل من سيناء في مساعيهم لتقويض «اتفاقيات كامب ديفيد».
لكن يظل الأكثر إثارة هو ما أورده التقرير وننقله بالحرف: على الوزير هاجل أثناء زيارته لمصر ، الإعراب عن الخوف تجاه التحاق أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» بالأكاديميات العسكرية.. إذ لا تفتقر واشنطن فقط إلى رؤية واضحة حول الأهداف السياسية قصيرة الأجل للجيش المصري، لكنها غير متأكدة أيضاً من الطريقة التي ستتطور بها المؤسسة بمرور الوقت. وفي هذا السياق، ينبغي أن تقلق واشنطن مما أُعلن عنه الشهر الماضي من رفع الجيش المصري للحظر المفروض على التحاق أعضاء جماعة «الإخوان» بأكاديمياته العسكرية. ولا تشارك «الجماعة» التزام الجيش المصري بالشراكة الإستراتيجية مع الولاياتالمتحدة والسلام مع إسرائيل: فهي تتسم بالعنف المتجذر للغرب كما أن هدفها في إقامة “دولة إسلامية عالمية” على حد تعبير نائب المرشد الأعلى خيرت الشاطر، لا يتسق مع التزامات مصر الدولية. وبالمثل، فإن حقيقة مبايعة جميع أعضاء «الإخوان» لقيادة التنظيم على “السمع والطاعة” تقوض التسلسل العسكري للقيادة. وفي ضوء الاستثمارات الهائلة التي ضختها الولاياتالمتحدة والتي يرجح أن تستمر في ضخها -- في الجيش المصري، ينبغي للوزير هاجل أن يستفسر حول مدى تجنيد أعضاء «الجماعة» في الجيش، والخطوات الجاري اتخاذها لضمان انضباطهم ضمن صفوفه. كما ينبغي للوزير أن يضغط من أجل توسيع نطاق “برنامج التعليم والتدريب العسكري الدولي” لتطوير مجموعة من المصالح المشتركة عبر تسلسل القيادة في الجيش المصري.
لقد كان البرهان واضحا وبرغم ذلك كانت إدارة أوباما جاهزة فور ثورة المصريين على الإخوان بتجميد المعونات العسكرية للجيش المصري، صحيح أن أوباما تراجع بعد حين بل وبادر بالاتصال بالإدارة المصرية الجديدة، ولكنه ترك شرخا في علاقة الولاياتالمتحدة بمجتمع بتجاوز 90 مليونا أجمعت أرادته على إزاحة الفاشية من مصر مرة واحدة وفضلت أن تقاتل إرهابه على أن تتقبله ليقاتل التسعين مليونا بعضهم بعضا.