رواتب إضافيه وكميات من السكر والياميش للمجاورين والأيتام والقراء بالتكايا والزوايا فى رحاب المسجد الأقصى عطر خاص ولأيامه ولياليه حكايات ووقائع حفظها التاريخ والرواة
إليها كان “الإسراء”.. ومنها كان “المعراج”.. وهى قلب قضية العرب والمسلمين بكل أبعادها التاريخية
القدس الشريف.. مدينة السلام والتاريخ والاستمرارية الفريدة والسحر الخاص.. هويتها العربية منقوشة على أحجار أسوارها وبواباتها ومساجدها وكنائسها ومدارسها وأديرتها وأسبلتها وشوارعها وخططها، على كل منها صفحة من صفحات التاريخ، وفى كل عصر من العصور تجد مكانا ً للقدس فى قلب كل عربى .. ففيها تجلت حكمة الأنبياء، وشهدت جبالها ووهادها دعوة المسيح عليه السلام، وإليها كان “الإسراء” بخاتم الأنبياء – معجزة الإسلام الكبرى – ومنها كان معراجه إلى السماء، وهى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. تمثل المدينة المقدسة: معيار قوة العرب والمسلمين، فإذا ما أعدنا قراءة التاريخ سنجدها آمنة زاهية فى ظل قوة العرب وازدهارهم، ونجدها “أسيرة عاجزة” فى ظل الضعف والإنهيار الحضارى، وهى قلب قضية العرب والإسلام بكل أبعاد المواجهة الحضارية والثقافية والسياسية مع عدونا التاريخى. ولرمضان فى رحاب المسجد الأقصى ومدينة القدس : عطر خاص، ولأيامه ولياليه حكايات ووقائع حفظها التاريخ الرواة.
ليلة الرؤية جرت عادة أهل مدينة القدس أن يرقبوا هلال شهر رمضان بالعين المجردة، كما جرت العادة أن يجتمع مفتى المدينة وأعيانها وقضاتها ومخاتير القرى وأئمة المساجد والخطباء والوعاظ فى ساحة المسجد الأقصى انتظارا ً للتحقق من ثبوت رؤية الهلال. يقول الكاتب الفلسطينى د. محمد عيسى صالحية: وكنت ترى جماعات من الرجال والفتيان قد ارتقوا جبلا ً أو تلة أو منارة.. حتى إذا رأى أحدهم الهلال، وتوثق الآخرون، انطلق “ فارس النظر “ يسابق الريح ليزف النبأ العظيم والبشرى بثبوت الرؤية.. وهناك عند هيئة المجتمعين، يدلى بشهادته.. فيصف شكل الهلال ولونه، ظهوره على قرنه أو على خاصرته.. مثل “فص” البرتقال أو “شقحة” البطيخ.. ويسجل كل هذا فى محضر رسمى ثم يصدر الإعلان بثبوت الرؤية.. فتضاء مآذن وقباب الحرم القدسى الشريف.. وتنطلق أول طلقة من مدفع “باب الساهرة” أحد أبواب القدس العتيقة، وهو مدفع تركى قديم ارتبطت شهرته بشهر رمضان، وكان القائم على خدمته “طوبجى” عجوزا يحشوه بالخرق والبارود ويطلقه طبقا ً لأوقات محددة مسجلة لديه .. وكأنها حياة جديدة دبت فى روح المدينة ويركض الأطفال فرحين بالنبأ السعيد، ويتبادل الجميع التهنئة “شهر مبارك إن شاء الله” .
استعداد وتنافس كعادة المسلمين فى كل أرجاء العالم الإسلامى، كان المقدسيون يحرصون على الاستعداد لاستقبال الشهر الكريم من ليلة النصف من شهر شعبان .. فتزدحم أسواق المدينة بالبضائع والناس، كل يسعى لتجهيز بيته بما يحتاجه من المسلى وأرز والسكر والدقيق والبهارات، والمكسرات ومنقوع قمر الدين والتمر هندى والعرقسوس والحلاوة والشاى والبن .. وكانت تصرف رواتب إضافية وكميات من السكر والياميش لآرباب الوظائف وطلبة العلم والمجاورين والأيتام والقراء بالتكايا والزوايا.. كما كانت عائلات القدس الشهيرة تتنافس فى تجديد فرش المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وسائر مساجد المدينة، وتزويدها بالقناديل الجديدة، كذلك كان المسئولون بإدارة الأوقاف الإسلامية وبلدية القدس ينشطون للتفتيش على القناديل وفوانيس الإضاءة وإصلاحها وتخصيص ما يلزمها من زيت الوقود، ويفرش السجاد والبسط والحصر الجديدة، وهى تقاليد متأصلة، أشار اليها الرحالة الفارسى الشهير “ ناصر خسرو علوى “ والذى زار القدس فى الخامس من رمضان سنة 438 ه / 1047 م ، وقد أبدع فى وصف المسجد الأقصى، فقال : كانت مساجد القدس تزدان بالفرش الثمينة من أفخر الأنواع، والقناديل والمسارج الفضية تزيد المساجد نورا وتلقى عليها مزيدا من الهيبة والجلال “ .. وقبيل بدء الشهر الكريم بعدة أيام، كان الأقوياء من الشباب يجرون مدفع الإفطار ويرقون به تلة بالقرب من “ باب الساهرة “ يرافقة أعيان المدينة وشيوخها، تحيط بهم فرحة الطفولة، ومن خلف الرواشن، ذوات الخدور يرقبن المشهد، بينما يردد الجمع الأهازيج: أهلا رمضان .. سهلا رمضان بكره بتهل .. والخير بيطل والمدفع طالع .. عالتلة طالع وتنتظم فى شوارع المدينة الأفران المؤقتة لصنع القطايف، وترتفع الدكك لبيع شراب الخروب، وتتبارى محال الحلوى فى الإعداد لصنع الحلويات الشامية الشهيرة: كل واشكر، البرازق، المعمول، الكنافة، كرابيج حلب، حلى سنونك، المطبق، المدلوق، البرما، أصابع زينب، المشبك، الفستقية، الجوزيه وغيرها... المسحراتى تعود المقدسيون فى سالف الزمان على المرور المنتظم للمسحراتى فى حارات القدس القديمة، ضاربا طبلته ومرودا كلماته البسيطة المعتادة فى نغم متميز مع إيقاع الطبلة، يشق سكون الليل: يا نايم وحد الدايم .. يا نايمين وحدوا الله يا عباد الله .. وحدوا الله كان المسحراتى يتفنن فى الأداء واستخلاص المعانى لحث الناس على الصيام والقيام وطلب المغفره، كما يتفنن فى إنشاد قصص المعجزات وتوزيع “ التحايا “ .. وقد يطرق الأبواب : “ إصح يا أبو العبد “ وفى كل ليلة يعود المسحراتى مملوء الوفاض بالحلوى والأطعمة والنقود وفى نهاية الشهر له الأجرة والعيدية . وللمهنة أصولها وأسرارها، توارثها الخلف عن السلف حتى أصبح نسبا، الأمانه والعفة والتدين ومعرفة دروب البلدة وأزقتها وبيوتها وعائلاتها .. وأشهر من تولى مهمة التسحير بالمدينة، فى العقدين الثالث والرابع من القرن الماضى “ الشيخ أدهم “ الذى كان له أيضا دور مهم فى نقل الرسائل بين القيادات الوطنية الفلسطينية خلال ثورة 1936 1939 .
فى رحاب الأقصى ما من رحالة أو زائر للحرم القدسى الشريف فى شهر رمضان .. إلا وكان ملء قلبة مشهد من الروعة والجلال .. الساحة الفسيحة للحرم والأسوار والمشاهد الأثرية التى تحيط بقبة الصخرة .. وروعة التكبيرات تنساب من داخل الأقصى وكأنما هى آتية من عالم الغيب، والقناديل الخافقة فى أرجائه كأنما ترعد من جلال التكبير .. “والظلال تفضل الضوء فتكتب سطرا ً من الجمال رائعا ً أو تخط آية من آيات السجده فى هذا الحرم العظيم يقرؤها كل ذى قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه”! ويحرص المقدسيون على الصلاة بالمسجد الأقصى وساحته خلال أيام رمضان، وفيه كانت تعقد حلقات دينية فى تفسير القرآن والفقه وعلم الحديث وسيرة النبى .. يتولى التدريس فيها نخبة من العلماء الأجلاء المشاهير من فلسطين والدول العربية والإسلامية، ولكل منهم يوم محدد، وكانت هذة الحلقات الدينية تعقد فيما بين صلاتى العصر والمغرب.. كما كانت تناقش فيها أيضا ً الأمور الدنيوية، فالأوضاع السياسية لم تكن مستقرة، مما جعل هذه الحلقات متنفسا لتزويد المواطنين بشحنات وطنية ضد الانتداب البريطانى وإرهاب العصابات الصهيونية، من هذه الحلقات خرج الشيخ الشهيد “ عزالدين القسام” وغيره من أبطال المقاومة الإسلامية الفلسطينية. كانت “ المملكة المصرية “ حريصة على إرسال نجوم “دولة التلاوة” إلى المسجد الأقصى فى رمضان . وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ محمد صديق المنشاوى، والشيخ عبد الباسط عبدالصمد، والشيخ أبو العينين شعيشع.. وكم ترددت أصواتهم الملائكية.. الخالدة .. بين جنبات وأروقة الأقصى. كما كانت صلاة التراويح بساحة الأقصى مشهدا إيمانياً رائعا، يستمر حتى ساعة متأخرة من الليل.. والبعض كان يواصل تعبده حتى صلاة الفجر.. وكثير ما كان يأتى إلى القدس مسلمون من مختلف بقاع العالم الإسلامى للاعتكاف فى العشر الأواخر من رمضان بداخل المسجد الأقصى.. أما يوم الجمعة من أيام رمضان، فكان عيدا ً عظيما فى هذا الحرم المبارك.. والجموع تزحف مستبشرة شطر المسجد الأقصى، يهتدى بسيرها من لا يهتدى طريقه.. تمر بهذه العقود الحانية على طريق التاريخ “ الطريق المدرج “ تحمل الأبنية العالية كأنها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث ومواقف، وما أدراك ما يوم “ الجمعة اليتيمة” فى المسجد الأقصى.. عيد إسلامى يشارك فيه الجميع، الرجال والنساء والأطفال، ويحرص على شهودها ضيوف الرحمن من أرجاء فلسطين والعالم الإسلامى .. بينما فرشت ساحة الحرم بالسجاد والحصر، يرضى بها من أشفق من الزحام داخل المسجد .. والجمع قد تبوأ مكانه فى هذا المحشر، وقد أحكمت الصفوف.. جماعات من النساء اصطفت فى جانب من ساحة القصى بين اشجار باسقات وعمد جميلة تعلو بئراً من آبار الحرم .. وجماعه أخرى من النساء أيضا ً انتظمت عند العقود المشرفه على الدرج المؤدى من باب القبة القبلى إلى المسجد الكبير .. وعقب انقضاء الصلاة، تنتشر الجموع لا يدركها البصر .. سيل يتدفق من أبواب وساحة المسجد .. وأسارير الوجوه خاشعة فرحة مستبشرة بوعد الله. كما كان خطيب المسجد الأقصى يعرف دائما بحلة خضراء وعمامه صلاحية، وهو زى يتوارثه خطباء المسجد الأقصى منذ عصر الناصر صلاح الدين، وهم من بنى كنانة، توارثوا هذا المنصب وإنه لشرف عظيم.. كانت خطابة الجوامع الكبيرة منصباً رفيعا فى تاريخ المسلمين، وكثير من العلماء يلقبون بالخطيب، وهذه المناصب يتوارثها الابناء عن الآباء، وتحرص الأسر على شرفها، وينصرف المقدسيون إلى الإكثار من الخيرات والصدقات وكل مظاهر التوسعة على الفقراء فى هذا الشهر الكريم.. ومن تقاليدهم أيضا ما يسمى ب “السكبة” تبادل إهداء الأطعمة المحببة بين الأهل والجيران . وكانت عائلات القدس الشهيرة تقيم ولائم الإفطار للمفتى والعلماء وأرباب الوظائف وشيوخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف ولعامة الناس .. كذلك كانت تعقد موائد إفطار جماعية، حيث يحضر كل رجل أطيب ما عنده ليفطر جماعة مع رجال الحى، سواء فى بيت أحدهم، أو فى إحدى المضافات ..
الحكواتى كان كثير من رجال القدس وشبابها يفضلون قضاء سهراتهم الرمضانية فى المقاهى أو “المضافات” يستمعون إلى شاعر الربابة أو “ الحكواتى “ .. الذى كان يتصدر المقهى، مرتديا زيا مميزا: السروال الأبيض الواسع وصديرية حمراء ومعطفا وشماغ (غترة) وكان يخصص له مقعدا عاليا يزدان برسومات من الخيال الشعبى، وينشد فى جو من البهجه والانسجام بعض من السير الشعبية مثل تغريبة بنى هلال وسيرة الظاهر بيبرس والزير سالم وعنترة بن شداد والأميرة ذات الهمة .. وحكايات من ألف ليلة وليلة. ومن أشهر المقاهى بمدينة القدس التى كانت تقدم هذا اللون من السهرات الشعبية، مقاهى، البساطى، زعتره، ومقهى صيام بمدخل باب العامود.. وكان أشهر الحكواتية الشيخ «صالح خميس» .. كما كان يعقد فى ليالى رمضان خصوصاً ما يعرف ب “السامر” وهى احتفالات شعبية ساهرة، كانت تعرف أيضا ب«السحجة» و«الدحية».. وتؤدى فيها أغانى وأشعار «المواليا» بشكل جماعى وبالتناوب بين فريقين متقابلين مصحوبا بالتصفيق وبأشكال بسيطة من الرقص الشعبى: الدبكة، شمالية، شعراوية، كرادية، طيارة، إبراهيمية.. وما بين العتابا والميجنا .. يعزف على الشبابة والمجوز .. ومن الأغانى الشهيرة التى تحتضن آمال الشعب وحنيته : «الدلعونه» .. و «بارودتى حبوبتى .. ما أحلى طلق زنادها» و«يارب تكبر مهرتى .. تكبر ونا خيالها»!