مدفون بها جموع من الآباء البطاركة منذ العصور الوسطى بها رأس القديس مرقص الذي تناول المسيح في منزل والدته العشاء الأخير
الكنيسة المرقسية بالإسكندرية إحدى أقدم كنائس مصر وإفريقيا والشرق الأوسط، شهدت أخيرا أحداثا دامية علي أيادي قوي الإرهاب الغاشمة.
تلك الكنيسة القديمة جدا والعريقة جدا وليس مجرد دور عبادة يرتاده أصحاب الديانة المسيحية المصريون، ولكنها جزء أساسي من تاريخ مصر في العصور الوسطي ومعلم أثري لم يلتفت إليه المسئولون حتي الآن، وننتهز فرصة بزوغها في الساحة الإعلامية مع هذا الحدث المؤسف، لنتحدث عن قيمة أثرية ومعمارية وتاريخية كبرى، وشاهد علي سماحة أهل مصر قديما مع المبشرين من الآباء الأوائل في عهد انتشار الديانة المسيحية.
فنلقي الضوء عليها من خلال بحث قامت به "سلفانا جورج عطا" باحثة الدكتوراه بالآثار القبطية – معهد الدراسات والبحوث القبطية.
الكنيسة المرقسية هي أول كنيسة بالقارة الإفريقية بأكملها وواحدة من ضمن الكنائس الرسولية الخمس في العالم المسيحي (روما - الإسكندرية -القسطنطينية - إنطاكية - أورشليم)، فضلا عن أنها كانت مركزا للثقافة اليونانية في العالم أجمع، بالإضافة الي شهرة مدرستها اللاهوتية، مما جعل كنيسة الإسكندرية منذ العصور الميلادية الأولي تحتل مكانة عالمية لا يشابهها فيها سوي كنيسة روما سواء بسواء.
وأصبح أسقف الإسكندرية هو الحكم و الفيصل في العالم المسيحي فيما يتعلق بالمسائل الدينية، فدفع هذا جميع الكنائس إلي اتباعها بما في ذلك كنيسة روما نفسها. ومنذ القرون الميلادية الأولي تميزت الكنيسة السكندرية التي عرفت بالكنيسة الأرثوذكسية القبطية بعمارة وفن مميز يعرف بالفن القبطي، وهو مصطلح يطلق علي الفن الذي ابتكره المسيحيون في وادي النيل منذ عام 313م حتي دخول العرب مصر عام 641، وقد شكل العهد الفاطمي عصرا ذهبيا للأقباط، فعاشوا علي مدي مئتي سنة مدة حكم الفاطميين مظاهر الترف والغني وعرفوا في أوقات أخري طعم البؤس والجوع والضنك، وتنعموا بالتسامح الديني الكامل في حقوق مواطنة كاملة، كانوا في أوقات أخري فريسة للاضطهاد والاستبداد العنصري الشديد ومع هذا ازدهرت في عصرهم الفنون و العمارة الكنسية.
القديس مرقص والقديس مرقص الذي سميت علي أسمه الكنيسة هو كاروز الديار المصرية وتحتفل الكنيسة المصرية له بعيدين الأول 30 برموه، وهو عيد استشهاده والثاني في 30 بابه وهو عيد ظهور رأسه في الإسكندرية، وتكريس كنيسته.
واختلفت الآراء حول موطن مولده، ولكن الأغلب أنه ولد في "قورنيا"بإقليم برقة بليبيا ومن والدين يهوديين تقيين من سبط لاوي، وكانت أمه مريم وأبوه يدعي إرسطوبولس، وهو يمت بصلة قرابة للقديس بطرس وأيضا للقديسين برنابا وتوما، وكان لثراء أسرة القديس مرقس أنهم استطاعوا أن يلقناه تعليما عظيما، فأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، بالإضافة إلي إتقانه للغة العبرية ودراسته للتوراة و الناموس اليهودي.
لكن قامت قبائل بربرية بمهاجمة ليبيا واستولت علي أملاك أسرة القديس، مما اضطرهم للهجرة إلي موطن أجدادهم في فلسطين وسكنوا بأورشليم في بداية عهد السيد المسيح، حين بدأ بشارته فهيئ للقديس مرقس أن يري المسيح ويكون من تلاميذه، وكذلك أمه مريم كانت من السيدات اللاتي خدمت المسيح وفتحت بيتها له، فكان العشاء الأخير في بيتها وكذلك حلول الروح القدس علي التلاميذ بعد صعود المسيح إلي السماء حسب اعتقاد المسيحيين.
بشر القديس مارمرقس الرسل خصوصا القديسيين بطرس وبولس في كثير من البلاد وعندما رجع من روما بشر في المدن الخمس الغربية بليبيا نحو 58م وقضي فيها تسع سنوات نشر فيها الإيمان المسيحي ثم جاء إلي الإسكندرية في عام 61م وغالبا جاء إليها عن طريق الواحات ثم الصعيد واتجه شمالا حتي وصل إلي الإسكندرية، وفي هذه الفترة كتب إنجيله باللغة اليونانية المعروف بإنجيل مرقس البشير.
وكان القديس مرقس يجول يبشر بالإله الواحد في الإسكندرية، فتمزق حذاؤه فذهب إلي إسكافي في المدينة يدعي أنيانوس، فذهب لإصلاحه وعندما غرس المغراس بيد "صرخ ثيوس" أي الإله الواحد" فانتهز مرقس الفرصة وقام بتبشيره بالمسيحية فآمن أنيانوس وأهل بيته وتعمدوا.
ومن هنا بدأت الكنيسة في مصر تنمو وتنتشر المسيحية فاغتاظ الوثنيون، وعندما جاء عيد الإله سيرابيس تزامنا مع عيد القيامة خلت المعابد الوثنية في الإسكندرية من أتباعها وامتلات الكنائس بالمؤمنين، فقام الكهنة بتحريض الوثنيين علي القس مرقس وهجموا علي الكنيسة واقتادوه من المذبح أثناء الصلاه وجروه بشوارع المدينة صارخين "جروا التنين في دار البقر" فسالت دماؤه وتقطع لحمه، ثم أودعوه السجن ثم جازوه مرة أخري وربطوه من عنقه بالحبال إلي الخيول وجروه في شوارع الإسكندرية، حتي فصلت رأسه عن جسده واستشهد. وكما تقول الباحثة في رواية تاريخية ذكرها المحيطون فيما بعد في كتاباتهم، إن الرومانيين الوثنيين حاولوا حرق جسده، إلا أن رياحا عتية هبت وسقطت أمطار أطفأت النار مما مكن أتباعه من اصطحاب جسده وقاموا بتكفينه في 30برمودة 68م.
الكنيسة المرقسية وتاريخها
يقال إنها كانت بيت أنيانوس أول أسقف رسمه القديس مرقس، وهو مكان الكنيسة المرقسية الحالية، وتشير الباحثة إلي أن التقليد الآبائي والمصادر التاريخية تخبرهم بأن عقب استشهاد القديس مرقس الرسول أخذ المؤمنون جسده وذهبوا به إلي مكان يدعي بوكاليا "مرعي البقر" بقرية راقودة وحفروا قبرا في الناحية الشرقية ودفنوه وكانت هذه أول كنيسة في مصر وظلت قائمة حتي القرن الرابع. وعانت الكنيسة المرقسية خلال العصور الوسطي من التخريب والهدم حتي جاءت الحملة الفرنسية عام 1798م عندما قام الفرنسيون بهدم منارتين للكنيسة، بحجة أن الإنجليز ربما يستخدمانها في محاربتهم، وعلي إثر هذا قام الأقباط برشيد للحفاظ عليها.
وبعد رحيل الحملة الفرنسية، قام أراخنة الإسكندرية بمحاولة استصدار فرمان لإعادة بنائها وبالفعل نجح الأرخن صالح عطالله في استصدار فرمان من محمد علي باشا عام 1818 م بجمع الأموال اللازمة لبناء الكنيسة وإخراجها بأبهي شكل مما يدل علي سماحته تجاه الأقباط في مصر.
وعلي الفور جمع المؤمنون بالمسيح بالإسكندرية الأموال اللازمة لبناء الكنيسة وتم بناؤها خلال سنة وكانت من الداخل علي نظام الأقبية المحمولة علي ستة أعمدة رخامية "أهدتها الملكة هيلانة إلي كنيسة الإسكندرية.
وظلت الكنيسة قائمة حتي قام بتجديدها البابا ديمتريوس الثاني عام 1870 وعمل لها حامل أيقونات من الرخام علي الطراز اليوناني.
وفي عام 1950 قام البابا يوساب الثاني بهدم الكنيسة وإعادة بنائها بعد ما وجد أن قبيتها آيلة للسقوط ،فقام ببنائها علي مساحة أوسع استغني عن نظام الأقبية المحمولة علي الأعمدة واستخدم الخرسانة المسلحة في البناء.
كما دعم منارتي الكنيسة بقمصان خرسانية وجلب لهم أجراسا كبيرة من إيطاليا، فقام بوضع الستة أعمدة الأثرية بواجهة الكنيسة الغربية الرئيسية كناحية جمالية، وقام أيضا بتوسيع حامل الأيقونات ليتلاءم مع اتساع الكنيسة الجديدة بنفس الطراز اليوناني للحامل القديم وتم افتتاح الكنيسة عام 1952م.
وفيما بين عام 1985 و 1990 م في عهد البابا شنودة الثالث تم توسيع الكنيسة المرقسية بالإسكندرية من الجهة الغربية مع الحفاظ علي نفس الطراز البازيليكي من الداخل، ونقلت الأعمدة الستة الأيرية إلي واجهة الكنيسة الجديدة وكان ذلك التوسع لازدياد عدد المصلين في الكنيسة.
الوصف المعماري للكنيسة
الكنيسة بنيت علي الطراز البازيلكي، وقد بنيت هذه الكنيسة علي شكل سفينة نوح و تأخذ شكلا مستطيلا، حيث يكون الضلع الغربي أطول من الضلع الشمالي الجنوبي وهي عبارة عن صالة كبيرة مستطيلة تنقسم طوليا إلي ثلاثة أقسام.. صالة وسطوجناحين.
وللكنيسة المرقسية ثلاث واجهات الواجهة الغربية "الرئيسية" وهي ذات طابع كلاسيكي، حيث تتميز بوجود منصة مرتفعة عليها البناء، وهي مدعمة بدرج مكون من خمس قلبات تنتهي بدورها إلي ثلاث قلبات أخري، تؤدي إلي مساحة مستعرضة تؤدي إلي مدخل الكنيسة الذي يتقدمه ستة أعمدة من الرخام الأبيض ولهما قاعدة مربعة الشكل وتيجان ذات طابع كورنثي.
وتحتوي الكنيسة علي الكثير من المقتنيات والأيقونات الأثرية، ومنها الأنبل وهو عبارة عن سلم حلزوني يؤدي إلي جسم الأنبل الخشبي، له قاعدة علي هيئة خوذة مضلعة ومقسمة إلي أربعة أجزاء والبدن علي شكل دائرة مقسمة إلي شكل رباعي به أيقونات إيرية تمثل كاتب الأربع بشائر الإنجيلية.
وتضم الكنيسة لوحة الآباء البطاركة، وهي من الرخام كتب عليها أسماء البطاركة حتي منتصف القرن الحادي عشر وهي مكتوبة بثلاث لغات القبطية العربية والإنجليزية ووضعت عند مدخل القبو الذي يرجح فيه وجود رأس القديس مرقس الرسول بجوار رفات بعض الآباء البطاركة.
كما تحتوي الكنيسة علي العديد من الأيقونات الفضية والذهبية الأثرية والقناديل، ولذلك فالكنيسة المرقسية غنية بالكثير من الآثار ذات القيمة التاريخية والأثرية، مما يجعلها علي قائمة المباني التراثية في مدينة الإسكندرية التي يجب فعلا الحفاظ عليها ووضعها علي الخريطة السياحية بالمدينة.