شعار «بنت البلد» ينافس منارة الإسكندرية الشهيرة.. وسعيد يعيد اكتشاف الجمال المصرى محمود سعيد وتوفيق الحكيم عشق للحمار الكائن البرىء.. وكامل زهيرى الساخر العظيم يتوه عشقا فى لوحات ابن الباشا
ابن الباشا يغرق فى الأسواق الشعبية والحوارى والمقاهى ليخرج كنوز الجمال المصرى العتيق
الإسكندرية.. هى عاصمة مصر الفنية والسبب هو البحر، أى الحرية.. وحاضرها ليس بأقل شهرة من ماضيها العريق، وهى أمتع مدينة يمكن أن يعيش فيها فنان، فهى التى أخرجت: محمود سعيد ومحمد ناجى وسيف أدهم وانلى، وولد بها توفيق الحكيم وسيد درويش والشيخ سلامة حجازى وإبراهيم عبدالمجيد وإدوارد الخراط وغيرهم.. عاشوا فيها وتأثروا بها وعشقوها، وخلدوا مناظرها وبناتها وصياديها، وصارت لوحاتهم وأدبهم وموسيقاهم تسجيلا واقعيا لهذه المدينة العظيمة. وإذا كانت منارة الإسكندرية، قد أصبحت رمزا للثغر المطل على أعرق بحار الدنيا، فإن الفنان محمود سعيد استطاع أن يجعل من "بنت البلد" شعارا حيا ينافس المنارة العتيدة! وكان اكتشاف محمود سعيد للملامح المصرية والعيون الجميلة والشفاه الغليظة، مثل اكتشاف سيد درويش للإيقاع المصرى، وكان أروع من صور الجسد بحب وصوفية نادرة.. وقد أغرق فى فنه وغرق فيه.. فقد هجر القضاء واتبع هواه الفنى! الثامن من إبريل: هو موعد الميلاد والرحيل على ضفاف المتوسط، فى حى الأنفوشى وبالقرب من جامع قطب الإسكندرية "أبى العباس المرسى" خرج إلى الحياة، أحد أعلام مصر الحديثة فى 8 إبريل 1897 وفى نفس اليوم من العام 1964 رحل عن عالمنا! من قصر الباشا الكبير إلى شوارع وحوارى الإسكندرية! عاش فناننا فى قصر والده "محمد سعيد باشا" رئيس الوزراء الأسبق، إلى أن غادر قصور الباشوات إلى شواطئ الإسكندرية وشوارعها وحواريها.. استحوذ عليه سحر الإسكندرية وعشقه لها والطبيعة البحرية، بين ملامح المدينة الأوروبية: البدلة والقبعة والبارات والمنتديات الثقافية والمعارض الفنية.. والحى الشعبى: حيث الملاية اللف ومناديل الرأس المزركشة بالترتر، واليشمك الذى زاد من جمال العيون، والموالد والمساجد وحلقات الذكر، والأسواق والمقاهى البلدى.. دون إغفال ثقافة الغرب! وكانت للنشأة الأولى لمحمود سعيد بالإسكندرية فى مجتمع أرستقراطى تأثيرا كبيرا، هذا المجتمع الذى تميز بصالوناته الثقافية ونجومها من الأجانب الذين استوطنوا فى المدينة، والسلك الدبلوماسى، وعدد من العائلات الأرستقراطية المصرية وبعض من أعلام الصحوة القومية والفكرية التى امتدت بتأثير من ثورة 1919 والاعتداد بمصر وتاريخها وحضارتها وتراثها وبالإنسان المصرى.. إلى جانب مراسم الفنانين الأجانب بالإسكندرية وعلى رأسهم أستاذه "زانييرى" ثم "بالينت" و"سكاليت" و"بابا دوبلو" و"أرنولد بيكى" وغيرهم .. جمع فناننا المصرى أدواته وقرر أن يخوض فى تيار الفن التشكيلى وجهز مرسما بمنزله الذى أصبح متحفا لأعماله فى "جناكليس". وفى العقد الثالث من القرن الماضى، كان كثير السفر إلى الأقصر وأسوان والنوبة، فقد أثاره الفن المصرى القديم وشعر بموضوعاته مجسمة، فانعكس اهتمامه بالنحت المصرى على تشكيله لكتل عناصر لوحاته.. كما ظهرت مؤثرات الفن الإسلامى فى موضوعاته الدينية، إلى جانب بصماته الخالدة على موضوعات البحر والصيد والمدينة والسوق والرقص والأسرة.. ما جعل من محمود سعيد متميزا عن أقرانه من جيل الرواد لأسباب ارتبطت بتكوينه الشخصى والعائلى والدراسى، وسعيه الدؤوب نحو الثقافة والمعرفة بشكل عام ومتابعة تيارات الفن الحديث بشكل خاص، باحثا عن ذاته واستقلاليته. الصحفى كامل بك فى بيت الرسام محمود سعيد كان الصحفى العتيد والمفكر والساخر العظيم والصديق الراحل كامل زهيرى من أشد المعجبين بالفنان محمود سعيد وبسيرة حياته وأعماله.. وكتب عن الفنان العبقرى:"ينحدر الفنان محمود سعيد من عائلة أرستقراطية قديمة بالإسكندرية، وكان أبوه محمد سعيد باشا أحد رؤساء الوزارة المصرية فى العشرينيات، ومحمود سعيد هو أيضا خال الملكة السابقة فريدة، ولعلها ورثت منه هواية الفن وموهبة الرسم، وكان الرسام محمود سعيد قاضيا بالمحاكم المختلطة، ثم استقال فى الخمسين من عمره ليتفرغ تماما لهوايته التى أخذت عليه كل حياته، وأصبح هذا الأرستقراطى أشهر رسام للحياة الشعبية، وأجمل ما صور فى لوحاته الشهيرة المرأة بنت البلد، خصوصا بنات بحرى". وكان كامل بك نفسه رساما مبدعا ازدان بيته بالزمالك ببعض روائعه، وأقيم معرض لأعماله افتتحه الفنان فاروق حسنى عام 1996 وأضاف كامل بك:"وقد سعيت إلى لقاء محمود سعيد فى بيته بشارع محمد سعيد باشا بالإسكندرية، وقابلنى فى غرفة استقبال الضيوف بالدور الأرضى ودودا ومتحفظا، واشتبك حديثنا عن الرسم والشعر بكتاب الفنان الشاعر عبد الرحمن صدقى عن الشاعر بودلير "الشاعر الرجيم" وقال إنه أجمل ما قرأ لشاعر عن شاعر، وأحسست بأن بودلير هو كلمة السر بيننا، فقد انفتح قلبه لى، فدعانى للصعود إلى السطح حيث مرسمه، واكتشفت أنه يختار بعض عناوين قصائد بودلير فى حب المرأة، وكان يششمها عابقة عطرا نفاذا فواحا، كما يراها بعينه الفنية المتفحصة، وكان يطرب لوسوسة أساورها ووقع أقدامها، وكما تغزل الشاعر بودلير بالمراة بكلماته الموسيقية، تغزل الرسام محمود سعيد بصورة المرأة فى خطوطه وألوانه وأصبحت المرأة هى موضوعه المفضل، وقد رسم محمود سعيد زوجته الجميلة ثلاث مرات فى البسة مختلفة وأقنعة منوعة، مرة ألبسها ثيابا إسبانية بشالها الحريرى، ومرة بقبعة من القش الإيطالى، ومرة سيدة لؤلؤية مرمرية، ورسم والدته بتعبير حزين جليل، ورسم حماته سيدة لا مجتمع لا تعترف بالغضون والسن، وأنوثتها الناطقة بإرادتها المطلقة، كما رسم ابنة أخته فريدة التى أصبحت بعد ذلك ملكة ثم رسامة.. ومن دائرة العائلة انتقل محمود سعيد إلى المجتمع وإلى شاطئ البحر والأسواق الشعبية، فكانت روائعه النادرة وعلى رأسها لوحة بنات بحرى الضخمة بالملايات اللف وغيرها". وتجدر الإشارة إلى أن محمود سعيد رسم لوحة "بورتريه" لنفسه عام 1924 فى أوج شبابه، وقد أطلق لحية خفيفة وأخذه شىء من الوجد على ملامحه والحزن فى عينيه.. وفى خلفية اللوحة مشهدان يلخصان الحياة والموت، مشهد جنازة يبدو فيه المشيعون من ظهورهم، وفى الجانب الآخر: تبدو امرأة تطل من بيتها وعلى حبال شرفتها نشرت ثيابا مبللة، فنحس من ميل الحبال أن الثياب مثقلة بالمياه.. وقد استعان فنانا على وطأة الحياة باللطف والفكاهة، كما كان شغوفا بنثر الرموز فى إبداعاته وتكرر رسمه للحمامة والحمار.
.
الحكيم وسعيد و"ألفة فنية مع الحمير"! كان توفيق الحكيم مبهورا بالفن المصرى القديم، عاشقا للفنون المعاصرة، وكتب "كل لوحة ما هى إلا عالم، مسرح، مسرحية داخل إطار وبرواز، أن عينى تكادان تسمعان شعرا ونثرا ونغما وألحانا وهما تتطلعان إلى ألوان ولوحات ورسوم وتماثيل من أعمال الخالدين"! وللحكيم ألفة فنية مع "الحمير" فقد كان له "حماره" الذى حاوره كثيراً فى السياسة حتى أصبح" حمار الحكيم الماكر: مشهوراً مثل العصا والبيريه والبرج العاجي.. وكان الحمار وحده وحيا لكتابين شهيرين للحكيم الذى جعل الحكمة تجرى على لسانه:"حمارى قال لى" ، "حمار الحكيم" ذلك الحمار الشهير الذى تحدث إليه وجادله وطرح عليه أسئلة فجاوبه عنها وربما رفض الإجابة فسمعنا له نهيقا.. وقد توقف طويلاً عند عين الحمار الجميل فى اللوحة الخالدة للفنان محمود سعيد "بنات بحري" وهى تلمع بالسعادة والغبطة وندرك السر فى حمولته "سيدة جميلة ثقيلة الأرداف" !.. وكتب الحكيم "لا شك أن أحب شىء إلى قلبى فى هذه الصورة هو هذا الحمار، فللحمار شخصية فنية محببة إلى قلبى، وقلما استطاعت صورة له أن تبهرنى مثل هذه الصورة، أن محمود سعيد قد أحب أيضا فى الحمار ما أحبه وهى نظراته"! آثاره الفنية لم يقتصر إبداع محمود سعيد على موضوع المرأة، وإنما تعددت موضوعاته الأثيرة فى مجموعات، كان أبرزها "الموضوع الدينى" بدءا من القديس جرجس والتنين، والهجرة، آدم وحواء والطرد من الجنة، إلى صلاة الجمعة والصلاة وحلقات الذكر والدراويش والمقرئ وزيارة القبور، وفى هذه الأعمال سحر صوفى وصفاء نفسى وورع تشترك فى صياغته سجل عناصر اللوحة. كما عالج موضوعات الأسرة والمدينة والسوق والرقص والغناء والصيادين، كذلك تألق فى موضوعات المنظر الطبيعى، والنيل والريف فى المنصورة، ومشاهد البحر فى الإسكندرية ومرسى مطروح ورشيد والبحر الأحمر.. فى إبداعات عبقرية ركز فيها على الجوانب السحرية والشاعرية والأسطورية والشعبية.
.
أكثر أعماله شهرة " المكس" و "البحيرة المقدسة" عام 1918. " بورتريه" شخصى عام 1919 وبورتريه آخر بلحية خفيفة عام 1924. " الحمار" ، "الجزيرة السعيدة" ، "ذات الثوب الأزرق" عام 1927. "الدراويش" عام 1928. "أمومة" ، "بائع العرقسوس" عام 1931. "عروس البحر" عام 1932. "ذات الجدائل الذهبية" ، "الصيد العجيب" ، "محمد الصغير" عام 1933. "المستحمات"، "الشواديف"، "الصلاة" عام 1934. "العائلة"، "حاملة القلل" عام 1935. "راقصة"، "ذات الهفهاف الأسود"، "الذكر" عام 1936. "المدينة – بنات بحرى" ، "القط الأبيض" عام 1937. "الأسرة" عام 1938. "الزار"، "حاملة الجرة" عام 1939. "امرأة فى النافذة"، "دراسة للخيول"، "السيرك" عام 1940. "الصيادون"، "رشيد"، "الهجرة"، "الصلاة" عام 1941. "نادية فى النافذة" عام 1942. "هاجر" ، "الفتاة ذات الحلى" ، "على الأريكة الخضراء" عام 1943. "عارية على الوسائد" عام 1944. "منظر على النيل" عام 1945. "ذات الأساور الذهبية" ، "دعاء المتعطل" عام 1946. "حرم محمد يونس" عام 1947. " فتاة على كرسى" عام 1948. "راقصة وتخت" ، "ذات العيون الخضراء" ، "بدرية" عام 1949. "حمام الخيل بالقرب من رشيد"، "ذات الوردة"، "مسجد مرسى مطروح" عام 1950. "محجر التلك فى حماطة البحر الأحمر"، "ميناء بيروندا" عام 1951. "ضهور الشوير" عام 1954. "منظر على النيل" عام 1957. "منظر على النيل" عام 1961. "الإسكندرية فى الليل" عام 1963. "ميناء بيريه عند الشفق"، "ميناء سيرا باليونان" 1964.
هاجر.. وحميده هذه الروح المصرية التى تسرى فى أعمال محمود سعيد، إنما تنبع من مقومات أسلوبه الفنى المميز خلال رحلته الفنية، كان ميالا إلى ذلك الجو الشرقى والحياة الشعبية فى أدق تفاصيلها، وبشكل مثل صحوة الإنسان بداخله فى تفاعله مع نفس تقدس الصدق والتلقائية البسيطة المصرية المذاق – خاصة – فى نموذج الأنثى الذى وجده فى بنت البلد.. "هاجر" الموديل الأولى التى تألقت ملامحها فى معظم أعماله: بقوامها المثير المخروط وشفاهها المكتنزة المثالية والنداء الذى يشع من عيونها، وقد رسم لوحة رائعة باسمها عام 1943.. ولا تقل عنها الموديل الثانية "حميدة" بسواد عيونها المميز وملامحها المصرية الشعبية.. وكلاهما "هاجر وحميدة" كانتا من حى بحرى: جسدتا نماذج من بطلات الأساطير الشعبية بكل ما فيهن من سحر وغواية. إن تصوير المرأة عند اى رسام عبقرى، لا يكون نقلا ونقشا لملامحها ولفتاتها وجلساتها كما تصورها الكاميرا.. فلا بد للفنان العبقرى من الشوق والشغف، وقد كان رسامنا العبقرى محمود سعيد مشتاقا وشغوفا.. واستطاع أن ينقل مشاعره بشاعرية الفنان الموهوب، فكان أقدر رسامى المرأة على التقاط معنى النظرة والجلسة واللفتة والبسمة.