«الإعلام» نجح فى إشعال الثورات وفشل فى إخماد الانقسامات
أحرقت أوراق روايتى الأولى.. حتى لا أترك هذه المفاهيم بعد رحيلى
تقف الكاتبة الأردنية الدكتورة ربيحة الرفاعى على فسيفساء تشع بألوان متعددة من الفكر والإبداع، فهى شاعرة تنحاز إلى الشعر العربى الأصيل فى صورتيه العمودية والتفعيلية الكلاسيكية، وترى أن الشعر هو أكثر الفنون قدرة على معايشة اللحظة العربية الراهنة بكل تحدياتها ومخاطرها وتبعياتها، وهى قاصة تتأبط قضايا وطنها الأردن، وأمتها العربية وفى القلب منها «القضية الفلسطينية» ساعية عبر الحضور القصصى للخروج بهذه القضايا من قائمة النفى والاستبعاد، وهى مفكرة وباحثة اجتماعية ترى أن الفعل الثورى هو الوثوب بالمجتمع نحو الأرقى، وأن مفتاح قدس الأقداس «العقل» هو إرادة حرة لا تقبل التراجع أو تخضع للابتزاز.. وهى كاتبة صحفية مهمومة بمغادرة دائرة الضجيج والفوضى التى تحاصرنا.. وجعلت عالمنا العربى على حد قولها فى حوارنا معها يعيش فى «ورطة». جمع مشروعك الإبداعى بين القصة والشعر وكانت لك ريادة فن «القصة الشاعرة» فى الأردن.. ما ملامح هذا المشروع؟ فى أعمالى القصصية درجة عالية من الرمزية الكلية والجزئية والمفردات بعيدة الدلالات، ومتعددة المعطيات، خصوصا فيما وراء النص، وقد فازت مجموعتى القصصية الأولى «أنسام وعواصف» بجائزة رابطة الكتاب الأردنيين عام 1985، وكنت فى مقتبل الشباب، وكانت مشاركتى الأولى جائزتى الأولى أيضا فى مسابقة أدبية كبرى، لكننى قررت التوقف بعدها عن المشاركة فى المسابقات الأدبية، حين لمست انعدام المصداقية فى تقييم المسابقات الأدبية سواء فى الأردن أم على صعيد معظم المسابقات المشابهة عربيا، حيث غياب الشفافية وسيادة الشللية، وتبادل المنافع، وفى هذا حدث ولا حرج، وظللت أكتب قصصى من واقع الإيمان المطلق بأن رسالة النص الأدبى فى المقام الأول هى تغير «وعى المتلقى»، وبهذا الفهم أكتب قصصى. هذا عن القصة.. وماذا عن الرواية؟ ما زلت متهيبة اقتحام حصون الرواية حتى الآن، وكنت قد كتبت رواية فى شبابى متأثرة بمفاهيم «تراجعت عنها»، فيما بعد، فجمعت أوراق الرواية وأحرقتها بالكامل، خشية أن أرحل عن هذا العالم، وتبقى هذه المفاهيم من بعدى، ولن أكتب رواية إلا إذا وجدت أنها تقدم إضافة فكرية وقيمة إبداعية للمتلقى ولفن السرد الأردنى والعربى على السواء، وإلا فلا داعى لإرهاق الناس بقراءتها. أنت شاعرة لها وزنها فى الأردن.. ما ملامح مشروعك الشعرى؟ كتبت أولى قصائدى الشعرية فى التاسعة من عمرى، وقد أذاعتها الإذاعة الأردنية وقتها مبشرة بميلاد شاعرة، وعند إصدارى بعد سنوات طويلة مجموعتى الشعرية الأولى «وجع الغياب»، شهدت حفاوة نقدية بالغة، والحقيقة أنا شديدة الحرص فى إبداعاتى الشعرية على صواب ونجاعة اللغة، والابتعاد ما استطعت عن تسطيحها، وإغراقها فى قوالب التهاويم والبهلوانية اللفظية التى باتت سائدة، فأنا أحرص على الجدية فى قصائدى الشعرية حتى الرومانسى منها، كما أحرص على الكتابة الشعرية فى نسقها الأصيل، متمثلا فى الشعر العمودى وشعر التفعيلة أحيانا باعتباره النسق الشعرى القادر فى تصورى أكثر من غيره على التعبير عن قضايا الأمة، التى أحرص على طرحها في جميع دواوينى، بداية من سنابل الواحة (1)، وسنابل الواحة (2) وما بعدها، وفى هذا كله أحرص على مخاطبة أعماق التلقى، وأتمنى أن أكتب يوما ملحمة شعرية عربية معاصرة كالإلياذة عند الإغريق، والشاهنامة عند الفرس. أنت إحدى رائدات فن «القصة الشاعرة» فى الأردن، وهو الفن الذى أثير حوله «لغط» كثير، من بعض النقاد مثل أشرف أبو جليل..... ما تعليقك؟ القصة الشاعرة ابتكار عربى محض، ولو أن هذا الفن وارد من الغرب، لاحتفى به الجميع، ودقت له الطبول، لكن مع الأسف المثقفون العرب تسيطر عليهم عقدة الخواجة حتى فى الإبداع، فلا يرحبون إلا بالأدب الغربى، فضلا عن أن نقادنا ومنهم «أبو جليل» يبدو أنهم فوجئوا على حين غفلة بهذا الابتكار العربى «القصة الشاعرة» التى عجزوا عن قياس وتمييز معاييرها الفنية، فخلطوا بينها وبين أجناس إبداعية أخرى سبقتها مثل الشعر القصصى، والحقيقة أن الشعر القصصى الذى ابتكره أحمد شوقى وغيره هو عبارة عن قصة تروى بلغة الشعر أو فى ثوب قصيدة، أما القصة الشاعرة فهى وليدة المزاوجة بين خصائص وسمات فن شعر التفعيلة، أو فنى السطر الشعرى، والقصة القصيرة جدا، التى يطلق عليها بعض النقاد خطأ «قصة الومضة»، وهو خطأ سببه سوء الترجمة عن الغرب، لأن الومضة فكرة إبداعية تخطر فى ذهن المبدع، أما القصة القصيرة جدا فلابد أن تحتوى على خصائص وأدوات وعناصر القصة الأساسية، وبهذا تجمع القصة الشعرية بين رمزية الصورة والتدوير الشعرى، واللغة الأكثر حساسية مع اكتمال الفكرة فى إطار النص مع التكثيف الشديد واعتماد الإيحائية ودلالات المفردات، لإطلاق العنان لخيال المتلقى فى فضاء النص الذى يتمتع بدلالات متعددة المستويات فى النص الإبداعى، وهى علاوة على قيمتها الذاتية كلون أدبى مبتكر، تتمتع بخصوصية جمالية عالية، بل على مستوى التأثير وتحفيز التغيير فى الفكر الفردى لتحقيق التطوير المجتمعى والإنسانى معا. شاركت فى تجربة «مغارة الشعر».. ماذا أضافت إليك؟ مغارة الشعر كانت فكرة الشاعر الأردنى محمد خضير، بهدف اجتماع الشعراء بعيدا عن ضوضاء القاعات، وتلقفها الشاعر نايف الهريس، فاستضاف شعراء الأردن فى «مغارة الشعر» بمنطقة «المفرق»، وقام المخرج الأردنى الكبير سالم الكردى بتصوير اللقاءات الشعرية، وإجراءات مقابلات مع الشعراء فى برنامج أدبى لتوثيق الإبداع الشعرى الأردنى، وهى تجربة رائعة أتمنى تكرارها فى كل قطر عربى. لماذا تغيب قضايا المرأة فى كتاباتك؟ لا أهتم بتناول قضايا المرأة فى نصوصى الإبداعية قصة أو شعرا، بشكل منفصل لأنى مؤمنة بأنها مصنع الرجال، وبالتالى لن تكون لها باعتقادى قضايا منفصلة عن الرجل. تشغلين منصب نائب رئيس الاتحاد العالمى للإبداع.. ما انعكاس ذلك على المشهد الثقافى العربى؟ الاتحاد العالمى للإبداع الفكرى والأدبى، هيئة ثقافية دولية رسمية مقرها «السويد»، وتضم فى عضويتها معظم دول العالم، وتمارس أنشطتها فى عدد كبير من الدول العربية، كما تلعب أدوارا ثقافية مهمة بالتنسيق مع اتحادات وهيئات ثقافية عربية عديدة، ورسالة الاتحاد الرئيسية هىالتواصل الثقافى بين الحضارات فىمواجهة صراع الحضارات المزعوم، وكذلك التقريب بين الشعوب على جسر الثقافة من خلال الترجمات والإصدارات والمؤتمرات والمهرجانات وغيرها من الأنشطة والفاعليات التى يقيمها الاتحاد، ومن ثم ردم الهوة بين الشعوب التى صنعتها نظرات معادية، واتهامات متبادلة، ورفض للآخر، هنا يستمد الاتحاد أهميته لأمة العربية، لكسر دائرة التقوقع والانغلاق، وحالات الاستعداء ونفى الآخر، فنحن أزمة عظيمة حضاريا، وعلينا التفاعل الإيجابى مع بقية الحضارات من هذا المنطلق. عملت فى مجال الصحافة والإعلام سنوات طويلة.. كيف ترين المشهد الإعلامى العربى الآن؟ الإعلام العربى فى معظمه لعب دورا سلبيا فى ثورات الربيع العربى، ويكفى أنه نجح فى إشعال الثورات، لكنه فشل فى إخماد الانقسامات والتشرذمات، سواء داخل القطر العربى الواحد، أم بين بعض الأقطار العربية، وإذا كنا موقنين بوجود إعلام وطنى محترم، فإننا واثقون أيضا بوجود إعلام متورط فى تنفيذ وتكريس المؤامرة الغربية لتقسيم وطننا العربى، وأنا عملت فترة طويلة فىمجال الصحافة التى تحتاج فى عالمنا العربى إلى أن تكون حرة بحق، سواء فى طرح الرؤى والقضايا الوطنية، أم عرضها بصدق وموضوعية، لكنها الحرية النابعة من المسئولية الوطنية والمجتمعية بعيدا عن حالة الفوضى الإعلامية الخطيرة التى يعانيها العالم العربى الآن بسب قبول العديد من وسائل الإعلام العربية لعب دور «الخادم» أو «مخلب القط» الذى يضر بواقعه العربى، والسب الرئيسى فى تصورى هو تورط «رأس المال المصلحى» فى تجنيد بعض العقول والأقلام الرخيصة التى بدأت فى التزايد فى ظل الظروف الاقتصادية التى يعيشها عالمنا العربى، فأحوال الأجندات أفسدت النخبة العربية إعلاميين ومثقفين وأفقدت الإبداع والثقافة والإعلام دورها الإصلاحى، فدخل عالمنا العربى فى حلقة مفرغة من الفساد وضياع المقدرات. دائما ما تطالبين بتحطيم الأصنام العربية.. ماذا تقصدين؟ أقصد كل الأصنام الثقافية والسياسية وغيرها.. نحن خلقنا من بعض الشخوص أصناما وأضفينا عليها القدسية زورا وبهتانا، فربضت على صدر الأمة العربية، وخنقت أنفاسها، وبات من الضرورى أن نتحرك جميعا لإسقاط هذه الأصنام، فمثلا خلقت الأصنام السياسية حالة من الصراعات التى وصلت اليوم إلى حد إراقة دماء بعضنا البعض، كما انساقت الجموع المضللة وراء أدعياء الوطنية ورافعى شعارات ديماجوجية تزعم حب الوطن، وتفعل عكس ذلك، كما نرى فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، كما أوصلتنا الأصنام المتسترة بالدين إلى استباحة النص الدينىالمقدس، وتبنى خطابا دينيا هو فى حقيقته مطية سهلة للمارقين والمجرمين والمتشددين والمجانين وأصحاب المصالح وليس هناك أدل من «داعش» وفروعها على ذلك، وينسحب الأمر نفسه على الأصنام الثقافية والإبداعية التى جعلت عالمنا العربى يعيش فى «ورطة كبيرة» تهدد حضارتنا وهويتنا، بل وجودنا نفسه، بينما الأصل فى النخبة الثقافية أن تمهد السبل فى اتجاه الحلول، وأن ترفع سقف الوعى الجماهيرى، وأن تغير بالقيم الجمالية والأخلاقية الواقع العربى المرير من حولها.. وهو ما لم يحدث مع الأسف الشديد، وتركنا نعيش عصر «الخيبات» وما أكثرها فى عالمنا العربى. وكيف ترين الخروج من هذه الورطة؟ للخروج من هذه الورطة، نحن بحاجة للعمل على ثلاثة مستويات: الأول خاص بأجهزة الثقافة الرسمية، التى عليها متابعة واكتشاف واحتضان المبدعين والمثقفين الحقيقيين لحمايتهم من الاستخدام ضد الأمة، ولتوظيفهم فى رفع الوعى، والتبشير بالحلول وحماية الهوية الوطنية، والمستوى الثانى المبدعون والمثقفون أنفسهم، الذين عليهم تجميع وحشد طاقاتهم الإبداعية والتنويوية، وتوجيهها فى إطار الفهم الحقيقى لدورهم فى حماية الأمة العربية ومقدراتها، وتطوير وعى الشارع فيها، والنزول من أبراجهم العالية، والخروج من مصالحهم الضيقة إلى قضايا الأمة كلها، أما المستوى الثالث فهو دور «المتلقى العربى» نفسه المطالب الآن بالتعامل والتفاعل مع الطرح الفكرى والإبداعى الوطنى الجاد، والاجتهاد فى فهمه وربطه بقضايا ومصالح أمتنا العربية.