بعض شخصيات الرواية ظلوا محكومين بإسقاطات ثقافية مجردة دون حرية العيش والتفاعل مع المتغير الزمنى أجاز الكاتب لنفسه أن يقتطع محطات من سياقها التاريخى
ألمانيا سلطت رواية عين الشرق الصادرة فى 2016 الأضواء على كاتبها إبراهيم الجبين ووضعت إنجازه كعلامة فارقة، لمرحلة لم نزل نعيش تداعياتها المأساوية، وبسرعة فائقة انتقلت الرواية وكاتبها إلى واجهة الحدث الثقافى فى هذه المرحلة العصيبة، لذا فقد توالت الكتابات والإضاءات الإعلامية والقراءات النقدية العجلى، مجمعة على أنّها وقعت على ظمأ سورى وجدانى وثقافى عميقين، فأبلت وأوجعت حيث وقعت، عبر إضاءات لمفاصل حياتنا السورية، وبمسئولية المثقف التغييري، أشار الكاتب إلى الغائب الأهمّ فى حياتنا، عبر الحضور القوى للأسباب السياسية والثقافية والاجتماعية لمأساتنا المتكاملة. ليس منصفاً أن تقرأ رواية “عين الشرق” للكاتب إبراهيم الجبين، بعين محايدة وعقل مهنى بارد، مغفلاً الحضور الرمزى والوجدانى الحار لكاتبها فى تفاصيلها الدقيقة، وأن تكتفى باستخلاص الحكمة الجافة، عبر الوقوف على مفاصل الزمن، الذى خطّ آياته على أبواب دمشق وجدرانها وفى أسواقها ومتاحفها، لتفند حجج الملومين فى كلّ عصر وزمن على تقصير هنا وخطل هناك، وسترتكب ظلماً فادحاً، إذ تكتفى بتسجيل كل ما تعتقده من هذه النتائج الواقعية المستخلصة من التاريخ المستعرض. وهو يخاطبك بوصفه الحكمة الجليلة الجارحة، التى يثقل كاهلك بها زمن، كلما امتدّ فى العمق وتطاول، تصاغرْت أمامه الأمكنة والأزمنة ووقفت دونها حائراً مرتبكاً، شأنك فى ذلك شأن كل الذين، لم يكتسبوا خصائص علم التاريخ ونبل غاياته المتجددة الفاعلة، فكل هذه الخلاصات المستخلصة على أهميتها، لا تغنيك عن أن تتذوق لذعة الجوى والوجد الحارقتين فى الأمكنة المتغيرة بين حى وآخر من أحياء دمشق، حيث زرع التاريخ ذاكرة حية وروحاً شغوفاً، لا يستطيع إلا كاتب ذو حساسية عالية وروح مرهقة متوثبة عاشقة للمدينة، أن يبادلها تلك الشفافية المرهفة، وهى تروى روايتها وحكمتها منذ يوليان الروماني، الذى أضاف فى تسميته لدمشق “عين الشرق” إلى البعد الوجدانى أبعاداً، ليس أهمها رمزية الاسم ولا دلالته التعبيرية البليغة ولا الأهمية الجيوإستراتيجية له، بل الكل مجتمعون ومتكاملون، وهى الأبعاد ذاتها التي، كمنت وتكمن خلف الأسباب فى كل المحن، التى مرت على دمشق والتى تجددت منذ ثورة السوريين 2011على جلادين مجرمين استباحوها واستأثروا بخيراتها، وجعلوا من شعاراتهم الهوائية، فى القومية والوطنية والممانعة مجرد غطاء لفسادهم ولنواتهم المذهبية المتصلبة، ولأرواحهم النهمة المستكلبة، خلف جوعهم الغريزى الماجن، خلف أسيادهم من الإيرانيين، الذين بنوا على عقيدتهم الدينية نظاماً أتوقراطياً، ينطوى على الثأر من التاريخ وعلى عداء مطلق له، لجعله قاعدة، لاجتياح فيالقهم للوطن والمنطقة العربية ومواطنيها ولتدمير القيم الوطنية كلها.
فى المغزى الروائى دمشق فى رواية إبراهيم الجبين أبعد من مدينة وأعمق من عاصمة سياسية وثقافية تاريخية ومن تحولات، جرت على تاريخ عريق ماثل فى كل مواضيها، كذاكرة لأزمنة حية مفعمة بأرواح هائمة، خلف أسرارها العلوية وأخرى جاثمة مهابة دامغة، تحط بكامل حكمتها الجليلة، فكأنّ المنقّب فيها حاو، ينفخ فى مزماره، فتهلّ أفاعى الجحيم بكل خباياها وألغازها ولا يتمكن من التقاطها إلا كل حصيف، يديم الصعود فى معراجها والتماهى فى طقوسها الوثنية والصوفية المتنوعة، ليعود منها بوجع تلك الأرواح المتصادية، وهى تحيط به،تبثه قهرها وثقل قيودها، ولتؤكد له أنّ الحقائق الواقعية والكونية الجارحة كلها قد غادرته، وما هو سوى عاشق مشغوف بعشقه الأبدي. “لم أشفَ من مرضى بدمشق. حين عثرت على خان النارنجة فى القيمرية قرب جيرون، أخذت أجمع بقايا الأحجار المسودة التى بقيت من حرائق قديمة. كان من بينها قطع متفحمة من آلات صناعة صايات الآلاجا وقطن الديما . كانوا يسمون القيمرية “الهند الصغرى” لأنها تنتج الحرير والأقمشة وسواها. “ولكنها كانت تنتج أرواحاً لا تغادر. تبقى تلامس أرواح المارة “ ص50 هذه الذاكرة الدمشقية الأصيلة، أنست بزائرها، فباحت له بمكامن عشقها ووجعها وبكل ما اختزنته من أنات وغصات، لم تزدها إلا شفافية ووجداً، حيث “دمشق.. هى قائمة بذاتها، وحدها، ولها روحها الآسرة، التى تعبر الأزمنة والبشر” ص27 وأيضاً “لا يمكنك أن تعيش فى دمشق بلا خيال رحب خلاّق، وإن لم يكن خيالك لائقاً بما تريده دمشق، فإن المدينة سرعان ما تطحنك فيها، وتطردك إلى حيث لا تكون سوى مستوطن عابر، لا تزورك أرواحها المتحولة، ولا تكشف لك أسرارها، وستطويك بعد حين” ص28. فى الرواية ثمة ملمحان موجعان، يتموضعان فى موقعين لافتين، ففى مقدمتها نبوءة مشئومة ترجع إلى اللاهوت (التوراة) “وحيٌ من جهة دمشقَ: هو ذا دمشقُ لا تزالُ من بين المدنِ وتكون رُجمة رَدْم” ص7. وملمح آخر يأتى مما ينطوى عليه العنوان “عين الشرق” الذى ربما نسيه الكثيرون أو مروا عليه من دون أن ينتبهوا لأهميته، وقد أضاف إليه الكاتب ما سماه مرض “هايبرثيميسيا” وقد تضمن وجع العاشق لمدينة، لم يشف من حبها. وفيها فاعلان (إبراهيم الصحفى وإبراهيم الكاتب) وإذا كان الصحفى يلتقط التفاصيل ويقدم توثيقات، تشكل روافع وأسس للبناء الروائي، فإنّ الكاتب باعتباره راوياً، أو متماهياً معه، هو من يتداول الحوار ومن يصغى إلى الأمكنة، معلقاً الزمن بين مترجحات، تميل دائماً إلى كفة الماضى بجدية ناسه وبعلو أخلاقهم ونبل غاياتهم، فى مقابل عوامل اجتياح حديثة، تحمل فى طياتها صفة الغزو القطاعى الاجتماعى والثقافى والسياسي، وهو الغزو الذى أفقد الأمكنة حشمتها وثقافتها وأخلاقياتها، فغدت متهتكة خلاعية، تسقط صريعة بين يدى جيل من الحكام المتسلطين الفاسدين وأتباعهم من المنتفعين فى كل مجال ومن مثقفى السلطة ومسوغى سياساتها الفئوية الحاقدة، فكأنما يؤثث الصحفى المتمرس الفضاء الروائى بالأحداث والأشخاص، ليشحذها الراوى ويصقلها بكل مهاراته، فتغدو واقعة فنية تشبه الواقع ولا ترتهن إليه، وتقف على التاريخ فى بعض محطاته ومفاصله، ولكنها تلغى التاريخ بوصفه ماضياً وتشلّ فاعلياته لتنفذ منها إلى ما هو أبعد من ذلك. وباعتبار العبث، لا يغدو لعبة فنية إلا فى يد ماهرة، فقد أجاز الكاتب لنفسه، أن يقتطع محطات من سياقها التاريخى العام، لتقول الرواية كلمتها الجلية، بكثيرين عبروا، كابن تيميّة لفيلسوف ظلمه القراء والشراح، وبرمزية الأمير عبد القادر الجزائرى الذى حمى مسيحيى دمشق من الهجمة العشائرية الشرسة، إلى الطاغية العجوز الممدّد على سريره، ومن حنّا يعقوب مؤسّس المدرسة السريانية، مرورا بأدونيس (على أحمد سعيد) زميل ناجى فى الشعبة الثانية وستناى الشركسية، وكثيرين آخرين، منهم من حضروا بأسمائهم المعروفة، وآخرون بالأسماء المستعارة.
القيم الفنية والتعبيرية وفى مواضع كثيرة، تتجاوز لغة الكاتب مهمة التوصيل والإفهام المجردتين، لتبدع معادلاً تعبيرياً للتجربة والواقع، فتجترح قيماً لغوية شعرية مضافة، تتأصل فى البنية السردية المشبعة بالرموز والإشارات المعبرة، كى تفسح للقارئ، ألا يكون مجرد قارئ مستلب الإرادة والوعي، بل مشارك فى إنتاجها، لذا فقد أحسن الكاتب حين عمل على تقلّصية السردية التقليدية، وكذلك الخطية المماشية للزمن، وظفهما فى خلق تفاصيل وقصاصات مكانية وزمانية، تجعل لكل قصاصة مجالها الخاص لتلتقى مع غيرها وتتفارق، من دون أن تفقد صلتها بالمكان الدمشقى العام، بوصفه ذاكرة دائمة التيقظ والحضور، وبوصفها (الأمكنة ) تتناوب مع الراوى فى سرد روايتها الحميمية والإفصاح عن دواخلها وسرّ أوجاعها! وهنا حيث غالباً ما يستبطن الكاتب شخصية الراوى بزيّه الصريح، متنقلاً لا متنكراً، بين صحفى ينقّب بمغزى قصاصاته، ليثرى الثابت المكانى بإيقاع زمني، يظلّ مهما توغل فيه، على حوافه وخارج دائرته، ليس لأنه عاجز عن الدخول إلى كنهه، وقد تيسر له القبض على ثيمته الأهم، بل لأن الزمن، كان قد تفلّت من أيدى أهله، وبات غصة فى حلوقهم وشهقة أرواحهم الباحثة عن خلاص من قاعها الرطب المظلم، حيث تبوح الأمكنة، بمزيد من الأصوات الداخلية المرهقة، فنستعجب لهذا الدفق الرسولى الدافئ، الذى تبثه دمشق لعاشقها، من دون أن تقدم مرثية لمدينة، تنبأت لها التوراة بالخراب، بل ظلت تعبر عن لوثة عشق صوفي، وقد تماهى فيها العاشق (الكاتب) بمعشوقته (دمشق)، فنحس به وجعاً، يتلوّى فى السرديات المتوازية والمتعرجة والمنكسرة المرتدة على معطيات ماض، هيّأ لدمشق أن تكون إحدى بوابات التاريخ الأهم، من قبل أن يخرج القديس بولس من بابها، ليبلغ رسالة المسيح إلى العالم.
الفضاء الروائى والسردية والشخوص لربما فاض العنصر البشرى فى “عين الشرق” على حاجة فضائها الروائي، ولربما ظل بعض شخوصها محكوماً بإسقاطات ثقافية مجردة، من دون أن يترك لهم حرية العيش فى التجربة للتفاعل مع المتغير الزمنى بحرية ونماء طبيعين، ولكن التنوع فى هذه الشخصيات وتجاورها وتقاطعها، أعطانا شعوراً بالاستغناء والركون إليها بوصفها حالات ناجزة، يتوزع فيها العنصر البشرى إلى فئتين: فئة تؤصّل علاقتها بدمشق الماضى والحاضر وتمثل الجانب المشرق والمغيب، ومنهم يوليان الروماني وابن تيمية الذي، يبرئه الكاتب من تهمة السلفية، ويثبت له رأى الباحثة الألمانية كولجلجن التى رأت فيه ناقداً استثنائياً، وأشارت إلى بذور التفكير المادى الغربى عنده، علماً بأنه يقف على رأس سلسلة من زعماء الفقه السلفى، كابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب، وإلى جانب هؤلاء ثمة شخصيات مؤثرة كالأمير عبد القادر الجزائرى وأخرى انتقالية، شكلت جسر عبور بين عهد الوحدة مع مصر والعصر البعثى كقريب الراوى (ناجي) وزميله (أدونيس) المقدم بصورة الانتهازى وشخصيات وطنية هجرت اتّقاء لإرهاب النظام، كسليم بركات وصبحى الحديدى ويوسف عبدلكى ووالده وجده من قبله وآخرون حضروا بصفاتهم الشخصية كمظفر النواب والمحامى هائل اليوسفي، وشخصيات يهودية - سورية، استغلت الصهيونية بعضها، كأخاد زميل الكاتب فى السكن، والياهو ساسون مؤسس جريدة الحياة وشموئيل مورية والمطربة راحيل، بينما ظلت قصة الجاسوس كوهين، الذى اخترق قادة حزب البعث مجهولاً، وفقاً لشهادة المحامى هائل اليوسفي، فجاء إعدامه لغرض إخفاء أدوارهم وعلاقاتهم الملتبسة معه، أكثر من رغبتهم بالانتقام منه كجاسوس. أما الشخصيات الأخرى من أشباه مثقفين ومدعين ووشاة، فقد ملأت فراغ الساحة الثقافية، الذى خلفته سجون الأسد والمنافي، وهم خلايا وأفراد من الحاضنة الاجتماعية الطائفية المنتفعة من علاقاتها بالسلطات الأمنية والسياسية وخدماتها. يلاحظ أنّ معظم الشخصيات الوارد ذكرها هى من الوسط الثقافي، وقد اكتسى حضورها رمزية فكرية، ولكن الأهم فى هذا الاستعراض الواسع للشخصيات التى عبرت فى حياة الكاتب الصحفية والأدبية الغنية، أنّ جميعها بسلبها وإيجابها وما ضيها وحاضرها، تندرج فى جملة الأسباب، التى أفضت بنا إلى ما وصلنا إليه ومصادقة على قول الكاتب “إن كل حرف أو ضربة سكين وريشة ورجفة وتر حدثت قبل الآن، إنما تشارك فى خلق هذه اللحظة” وحيث إنّ عناية الكاتب انصبت على السرد اللحظي، بوصفه بنية تراكم للمصفوفات الروائية المقتطعة المهمة، متصدياً لمسئولية المثقف النوعي، العامل على إعادة بناء الهوية السورية، كما كان يجب أن تكون، وكما أرادها رواد عظام، جمعهم نسق ثقافى وهمّ حضاري، برغم تباعد أزمنتهم وتفرق شملهم، لذا فهو يواجههم بنقيضهم، ممن دفعوا بالطائفية مترافقة مع الفساد وانهيار القيم، وأمثلتهم لا تتوقف عند “حراس الأرض” ولا عند تلك الاستطالات الثقافية، التى حصرت عداءها مع الجامع، متصالحة مع نقيضه الطائفى المستبد.
الرواية والتاريخ إن ما نلمسه فى رواية “عين الشرق” من الوقوف على محطات تاريخية، لا يتقصّد التاريخ ليعيد إنتاجه، إنما ليلغيه فينفذ منه إلى روحية الأمكنة الدمشقية، حيث تتعانق الشفافيتان والوجدان (الأمكنة والكاتب) فى بث مترع بالوجد الصوفى المتبادل. وهو يسرى بدفق رسولى مرهق بانسيابية وغزارة ما يحمله، من المعانى والأحاسيس والمشاعر، من دون أن تؤثر تلك الوجدانيات الحارة بالمبنى الروائى أو تفقده سمته الرئيسية الموصوفة ب “ميتافيزيقيا العقل” حيث يبنى ويتجادل فى لحظته السردية الماضى والحاضر، مؤكدين مقولة الرواية الرئيسية عن دمشق التى هى سوريا الحاضر، عبر مروحة من الاهتمامات الواقعية الصادمة للوعى وللمشاعر والأحاسيس. إذ لأول مرة تقدم دمشق بهذه الصورة الجارحة، برغم أننا كنا قد وجدنا شيئاً من هذا الوجد فى رواية إبراهيم الجبين ذاته “يوميات يهودى من دمشق” التى صدرت فى العام 2007، ولكن طعم الوجد هنا، جاء أعمق وأوجع ففى رواية من ثلاثمائة وستين صفحة، يقدم احتفاء خاصاً بذاكرة الأمكنة، التى تظل قاعدة لدوران الزمان وتبدلات ناسه، ولتشارك الكاتب فى رواية تلك التغيرات الدرماتيكية، يقول الراوى ل “إخاد” اليهوديّ “بدأت (دمشق) تكتظ بالقادمين. سكنها السفلة والرعاع واللصوص، أقام فى بيوتها ذات الأبواب العالية والمندلونات المشرقة، مجرمون وقتلة وقطاع طرق...أماكن السهر والحانات تحولت إلى مواقع للرذيلة، بعد أن كانت منصات تغيير معرفى وجمالي” ص86.
وهم الإخوان وسحق المجتمع وفى قلب التاريخ المعيش نجد صورة الطاغية “الماكر الشرير”، الذى حوّل السجن إلى “ثقافة شعبية “ سورية، وحوّلته العصبية الفئوية التى أحياها فى طائفته أسطورة وأعظم شخصية، ظهرت فى تاريخهم بعد علي، وبذا يقزمون “على بن أبى طالب” بتحويله من أحد أبرز الشخصيات الإسلامية من الصحابة، إلى شخصية علوية فئوية ضيقة، وهى صورة لا تتفق أبداً، مع ما عرف عن سلوكه ولا فصاحته وشجاعته وما تميز به من مناقبية عالية، ولكنهم وفى سياق هذا التصنيف الظالم، الذى يجعل من طاغية معاصر كحافظ الأسد استمراراً لشخصية ودور علي، وربما بنجاح سياسى أكبر، استحق من خلاله تأبيد حكم سلالته محمولة على وعى عصبوى طائفي، أما فى السياق المقابل، فيقف الكاتب على وهم الإخوان المسلمين وبرغماتية الشريحة المدنية المتوسطة المبتذلة، التى عقد معها الأسد صفقة تتعلق بشئونها الاقتصادية، مقابل مبايعته سياسياً، ولم تكن نجاح العطار إلا إحدى رموزها، وذلك لأنّ هذه الشريحة، شكلت بنية تحتية وفرت للأسد إمكانية تمرير سياساته، ومنها تشتيت البنية الاجتماعية فى الوسط السني، وتشكل هذه إحدى المفارقات المهمة فى سلوك بعض شخصيات البرجوازية المتوسطة، ورهاناتها البائسة، التى ساهمت فى وصول السلطات إلى هذه الدرجة من الطغيان، تحت اسم محاربة الإرهاب وكأنّ نجاح قد نست أو تناست الشعار الصباحى الذى فرض على المدارس المدنية والعسكرية ترديده كعهد “أن نسحق عصابة الإخوان المسلمين المجرمة” وهو ما يقابل عهد الأبدية للأسد وسلالته من بعده. ومن المؤسف أن كلّ ذلك يحصل فى غياب دور النخب الثقافية التى شغلت بالفتك ببعضها، و”بتدمير ذاتها آلياً” واحتجبت خلف خوفها ومصالحها الشخصية عن دورها فى التنوير وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والحداثة، ناهيك عن واجبها فى “ أنتضخّ كماً هائلاً من المعارف فى جسد الثقافة العربية والعالمية” وبذا أخرجت من معادلة توازن السلطة والمجتمع المدنى عبر (قوته المعنوية الناعمة) فترسخ بغيابها المعنوى طغيان الحاكم، وتمت عبرها مبايعة الثقافة والمثقفين عبر السكوت أو بالتابعية المباشرة لسلطتها المستبدة بالفرد والمجتمع.
من هذا الواقع المستعرض فى الرواية وعبره، تشكّل مناخ انهيار ليس النخب الثقافية والفكرية فحسب، بل الكتلة الوطنية السورية ذاتها “بينما كان السياق الوحيد المتماسك هو السلطة، وإن لم تكن منها فأنت هدف حتماً”. رواية “عين الشرق” للكاتب والإعلامى السورى إبراهيم الجبين، عمل فنّيّ اجتمعت فيه عين الصحفيّ بتوثيقاته وعقل المثقّف المسئول وقلب الشاعر المنطوى على شغف العاشق، لترسم لوحة معاصرة عن مدينة هى أبعد من حدودها الإدارية وأبعد من مسمّاها، بحيث تنفتح على محيط اسمه الشرق، وهى وإن بدأت دمشقية وانتهت كذلك، ولكنها عملت على تقاطعات دمشق السورية المختلفة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية واحتفظت للمدينة بمكانة القلب السورى أو العين، التى بدأ منها العنوان وإليها انتهى، ويمكننا فى هذه النظرة العجلى التى تتطلب الوقوف مطولاً عند فنيات العمل، أن نقول: إنّ رواية “عين الشرق” قد عمقت الإحساس بالإيقاع التائه للنثر، وعبرت عن قوة تفكير وحسّ فنى مرهف ودقيق، مع مراعاة للنسب فى أقسام العمل وسلاسة الانتقال بين أجزائها المعبر عنها بعناوين لأمكنة دمشقية، وبها حقق الجبين نموذجاً حداثياً أصيلاً، يجمع بين النقيضين “وسوسة الواقع وذوق الفنان” حسب تعبير فلوبير.