رئيس جامعة القاهرة يترأس لجنة اختيار المرشحين لعمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية    ارتفاع الذهب في مصر استجابة لتحرك السعر العالمي    أسعار الخضروات اليوم الجمعة 10-5-2024 في الدقهلية    إزالة 32 حالة تعدي على أراضي الدولة ضمن حملات الموجة ال 22 في الشرقية    رفع 29 ألف طن مخلفات بالمنوفية خلال أبريل الماضي    مصدر رفيع المستوى: الحكمة في إدارة التفاوض لا تمنع مصر من حماية أمنها القومي بكل السبل    الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" يتبادلان القصف    مواعيد أهم مباريات اليوم الجمعة 10-5-2024 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    مباريات الدوري السعودي اليوم.. 3 مواجهات قوية وظهور «شريف» أمام موسيماني    خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية    ليلة سقوط اللصوص.. القبض على 6 متهمين بارتكاب جرائم سرقات متنوعة بالقاهرة    ماس كهربائي وراء نشوب حريق محل بأكتوبر    انطلاق فعاليات القوافل التعليمية لطلاب الثانوية العامة بالشرقية    في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر    مواعيد قطارات القاهرة إسكندرية المكيفة 2024 بعد التعديل لموسم الصيف    جامعة المنيا تحصد 4 مراكز متقدمة في مهرجان إبداع على مستوى الجمهورية    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    بروتوكول تعاون بين «تيودور بلهارس» و«طب الزقازيق» في مجالات التعليم والتدريب    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف منطقة اللبونة في بلدة الناقورة جنوبي لبنان    سويلم: الحضارة المصرية رائدة في وضع تقنيات للري تعد الأقدم بالتاريخ    وزارة التموين تسلم 2.3 مليون طن قمح محلى من المزارعين حتى الآن    "لديه ذبذبة".. مهاجم الزمالك السابق يتحدث عن فرص الزمالك للفوز بالكونفدرالية    رحلة مبابي في باريس تنهي بمكالمة الخليفي    "يا عزيز عيني" فانتازيا أسطورية تحكي عن إيزيس وأوزيريس بطنطا    الفنانة يسرا اللوزي تشيع جنازة والدتها عقب صلاة الجمعة    هنا الزاهد وشقيقتها فرح يرقصان في حفل زفاف لينا الطهطاوي (صور وفيديو)    رد فعل محمد عادل إمام بعد قرار إعادة عرض فيلم "زهايمر" بالسعودية    حصاد جامعة حلوان الأسبوعى    الاستغفار والصدقة.. أفضل الأعمال المستحبة في الأشهر الحرم    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد عبدالحليم محمود بالشرقية    6 تخصصات.. "صحة مطروح" تطلق قافلة طبية في العلمين    ترفع الكوليسترول وتضر القلب.. 5 أطعمة احذر تناولها على الإفطار    تجنب 4 أطعمة لتقليل خطر الإصابة بالسرطان    وزير العمل يتابع إجراءت تنفيذ مشروع "مهني 2030" مع "اللجنة المختصة"    463 ألف جنيه إيرادات فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة في يوم واحد بدور العرض    فريدة سيف النصر ضيفة عمرو الليثي في «واحد من الناس».. الإثنين    مصرع ضابط شرطة إثر اصطدام «ملاكي» ب«جمل» على الطريق ببني سويف    «التنمر وأثره المدمر للفرد والمجتمع».. موضوع خطبة الجمعة اليوم بالمساجد    فضل يوم الجمعة وأفضل الأعمال المستحبة فيه.. «الإفتاء» توضح    سعر متر التصالح في مخالفات البناء بالمدن والقرى (صور)    10 علامات ابحث عنها.. نصائح قبل شراء خروف العيد    حماس: الكرة الآن في ملعب الاحتلال للتوصل لهدنة بغزة    القسام تعلن مقتل وإصابة جنود إسرائيليين في هجوم شرق رفح الفلسطينية    حماس: لن نترك الأسرى الفلسطينيين ضحية للاحتلال الإسرائيلي    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    تاو يتوج بجائزة أفضل لاعب من اتحاد دول جنوب إفريقيا    نشوب حريق بمصفاة نفط روسية بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    أول مشاركة للفلاحين بندوة اتحاد القبائل الإثنين المقبل    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    صلاة الجمعة.. عبادة مباركة ومناسبة للتلاحم الاجتماعي،    3 فيروسات خطيرة تهدد العالم.. «الصحة العالمية» تحذر    مايا مرسي تشارك في اجتماع لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب لمناقشة الموازنة    عبد الرحمن مجدي: أطمح في الاحتراف.. وأطالب جماهير الإسماعيلي بهذا الأمر    ما حكم كفارة اليمين الكذب.. الإفتاء تجيب    إصابة 5 أشخاص نتيجة تعرضهم لحالة اشتباه تسمم غذائي بأسوان    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية إبراهيم الجبين التي تطل على اللحظة السورية الدامية
«عين الشرق» والجرح الغائر فى قلب دمشق
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 12 - 2016

حين تنتهي من قراءة رواية إبراهيم الجبين (عين الشرق) تشعر أن ماقرأته هو دفق من روايات عديدة تكتظ بها ذاكرة الجبين ورؤيته ، ولكنه يصوغها في عقد دمشقي واحد تصطف قلائده في نظم بديع ، وهندسة بنائية متقنة لعمارته الروائية التي قد لاتمنح سر بنيتها (الكود) للقارئ العابر، ولكنها لاتخفيه عمن يتمعن في التفاصيل ، ويبحث عن المفاتيح ، و يتأمل طريقة النظم ، فيدرك أن المتقطع في السرد بين الأزمنة والأحداث يدور في ذات الفلك ، عبر متوازيات ومتواليات حسابية و هندسية يقبض إبراهيم من خلالها على المتصل الخفي في المسار التاريخي الذي يرصده بعين الشرق التي يتربص بها شرقها وغربها معاً.
........................................................
وتطل عين إبراهيم على محطات تاريخ دمشق من اللحظة الدموية الراهنة وهي تراقب تحول السوريين إلى يهود جدد ، في إشارة إلى التحذير الشهير الذي أطلقه مظفر النواب (سنصبح نحن يهود التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوى).
وتنطلق ذاكرة الكاتب الدمشقية من التكية السليمانية التي ترمز إلى ذورة من ذروات دمشق في القرن السادس عشر ، وهي تعيش في العصر العثماني الذي دخلها رافعاً راية الإسلام مدافعاً عنها ، ففتحت دمشق له قلبها ووعيها لمجرد كونه أحد أبنائها الأوفياء الذين يسمونها الشام الشريف .
ويعلن إبراهيم بما يدعو للتأمل أن دمشق ( ليست للدمشقيين ، ولا للمهاجرين ، فهي قائمة بذاتها ، ولها روحها الآسرة).
ولايخفي الكاتب أنه متأثر بمؤرخ شعبي عرفته دمشق قبل ثلاثة قرون ، هو البديري الحلاق ، فهو يقول: (رأيت البديري الحلاق في شارع قديم لكنه لم يرني) والطريف أنه يرى تجربة البديري (أول خروج عن الزمن) وقد ضاعت أوراق البديري حتى عثر عليها مصادفة الشيخ سعيد القاسمي ، فظهر كتاب (حوداث دمشق اليومية) .
ولكن حوادث إبراهيم اليومية مكثفة بثقافة واسعة لم يكن البديري على شيء منها ، كما أن رؤية الجبين للحدث عميقة الاتصال بالتاريخ الذي لايزال حياً ، ومسيطراً على بعض الشخصيات المؤثرة وعلى الأحداث الساخنة ، فهذا (إخاد اليهودي) الذي قابله صدفة في نيويورك مأخوذ بتاريخ بابل ، وذاك ( محمود غول أغاسي) يظهر باسم (أبي القعقاع) ويعتبره المؤلف (مؤسس داعش) وفي قلب العاصمة ما يزال (ابن تيميه) سجيناً لكنه يعيش في قلوب كثير من أبنائها ، وهو يقول لإبراهيم في حواره التخييلي: ( أنا هنا لأني رفضت التخلي عن دمشق).
والتخييل مبثوث في الرواية دون مواربة أو التباس ، فالكاتب يعلن باسم عين الشرق (إن لم يكن خيالك لائقاً بما تريده دمشق ، فإنها تطحنك وتطردك ، لن تكون سوى مستوطن عابر ، ولن تزورك أوراحها المتجولة ، ولن تكشف لك عن أسرارها).
وخيال إبراهيم يطوف حول شخصيات إشكالية يصعب أن تغفل عنها عين الشرق لأنها حاضرة في وجدان الناس، ومن أهمها ابن تيمية الذي يبدو أحد أبطال اللحظة الراهنة ، وحين يمضي إليه إبراهيم فيخترق القضبان التي تسجنه في القلعة وسط دمشق ، يختلط عليك حوار إبراهيم معه ، بين كونه تحقيقاً أمنياً أو تحقيقاً صحفياً ، ولكنه يمضي إليه عارفاً لقدره ومكانته .
- قالوا إني رفعت شعار التكفير.
صرتَ أيقونة للتكفير، لا رافعاً لشعاره فقط.
كتبتُ في رسالتي «قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة»، إنه «لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه».
قرأت هذا. نقلته عنك الباحثة الألمانية أنكه فون كوجلجن الأستاذة في جامعة برن للعلوم الإسلامية.
هل كتب عني المسيحيون؟
نعم. قالت إنك «شخصية ذات طراز عظيم، فقيهاً متكلماً ناقداً للمنطق الأرسطي والتصوف من جهة، وناقداً استثنائياً وباحثاً أخلاقياً من جهة أخرى». قالت إن بذور التفكير المادي الغربي، الذي يرى أنَّ الأشياء المادّيَّة هي «أصل الوجود»، وأنَّ الأفكار تابعة لها، موجودة بوضوح في فكرك أنت، وهو ما عُرِف فيما بعد في أوروبا باسم «المذهب الأسمى».
يعترف إبراهيم بأنه يرى الشيخ الجليل السجين بعقله (كنت قبل أن أراه في القلعة، مأخوذاً بأثر هذا الرجل. لم أتخيله. رأيته حقاً بعين عقلي. أردت أن أحاوره، لأني لطالما رأيت أنه عقدة دمشقية نشرت قوتها في كل اتجاه).
يستعيد الكاتب لحظة هجوم التتار على دمشق ، وموقف ابن تيمية في منع الناس من الهرب ومجادلتهم في كون التتار مسلمين ولا تجوز محاربتهم .. لكن إبراهيم ينطق ابن تيمية بحقيقة موقفه :
( هؤلاء معتدون. لا مسلمون. من يسفك الدماء ويغتصب النساء لا يبقى مسلماً. قلت لهم: لو وجدتموني أنا، في صفوف العدوّ، وأنا أحمل مصحفاً على رأسي، اقتلوني ).
لم يغب عصر القلعة عن الرواية رغم اكتظاظها بالناس وبالأحداث ، فإبراهيم يدرك عمق حضورها في الوجدان العام ، وهو يعترف بأنها تسكنه (صار هاجساً سيطر على تفكيري طيلة الوقت، البحث عن طيف سجين القلعة. وكانت الأعوام تجري كدوران سريع للشمس. لم يبق منه سوى سلاسل الحديد. وظلال بيضاء في الزنزانة المعتمة. كان موجوداً. لكنه لم يكن يريد إظهار نفسه. بقي سجين رأي في القلعة وفي عقول الناس. كنت سأقول له: إنهم يعتبرونك مثل القديس أوغستين. أو مثل توما الإكويني. ويقولون إنك قد أثّرت بمارتن لوثر. لكني لم أقل).
ولابد من أن يدرك القارىء أن الرواية في هذا الجانب الحواري تخرج عن كونها مجرد سرد لأحداث ، لتكمل مهمتها في كونها تصور صراعاً فكرياً يبدو المؤلف طرفاً فيه وليس ناقلاً لما رواه التاريخ رغم استعانته بابن كثير.
ولن نسأل هنا عن صواب الجدلية وعن مصداقية الإنصاف ، وأحسب أن الكاتب لا يطلب ذلك في استحضاره شخصية ابن تيمية ، ولذلك تراه لايسرف في الحديث الديني أو الفقهي أو الفلسفي ، وإنما يثير القضية في ذهن القارىء ، ويدعوه بالإيحاء إلى مراجعة موقفه من ابن تيمية الذي يضطرب الناس في فهمه ، فبعضهم يراه رافعاً لشعار التكفير والتشدد إلى حد التطرف وآخرون يرونه شيخ الإسلام الحاضر في مذاهبهم.
وكما يحضر ابن تيمية، يحضر عبد القادر الجزائري في لحظة صراع طائفي دام ، ويستعيده إبراهيم عبر حديثه عن فيلم أعده عن الجزائري ، ويقول إن هذا الفيلم السينمائي خرج إلى الحديث عن دمشق ( وعن جرح غائر كانت قد تعرضت له في العام 1864. استغله الجميع، وكذب فيه الجميع. «طوشة النصارى» وهي التسمية المتعارف عليها، للأحداث التي ضربت دمشق في تلك السنوات وما تلاها. كنت أقف أمام اللوحة العملاقة في بيت الأمير، والتي تصوّره وهو وسط حرائق الشام، والضحايا تستغيث به. بينما يقبل أحد القساوسة يده. لم تكن المرة الأولى التي أهتم بها بطوشة النصارى. لكن هذه المرة، كنت ألاحق ليس ما كتب في التاريخ، بل ما لم يكتب، ولم يدر حوله أيّ كلام. كيف تغيرت المدينة بعد الطوشة. من ذهب ومن جاء؟ وما تأثيرها على لحظتنا هذه؟).
ولم يغب اليهود عن عين الشرق ، ولم يكن اهتمام إبراهيم مفاجئاً بحضورهم في أدبه ، فقد كانت روايته الأولى عنهم (يوميات يهودي من دمشق) وسنجد بعض أبطال روايته يحضرون بأشكال متعددة في عين الشرق ، لكن إخاد اليهودي يحضر باسمه كما حضر أبو محجن وسواه ممكن شكلوا هواجس روائية للكاتب في روايته الأولى التي تبدو الثانية ( عين الشرق ) نوعاً من امتدادها وتداعياتها في رؤيته واهتمامه .
لكن حديث إبراهيم عن (إخاد ) سيبدو ثانوياً في سياق الرواية بالمقارنة مع يهودي آخر دخل دمشق جاسوساً ، إنه (إلياهو كوهين ) الذي لم تكتمل قصة إبراهيم عنه ، وقد أثارها عنده صديقنا الراحل ( المحامي هائل اليوسفي ) الذي عرض على إبراهيم أن ينجزا معاً عملاً أدبياً فنياً يقدم القصة الحقيقية عن كوهين استناداً إلى ملفات التحقيق التي حصل عليها اليوسفي من القاضي صلاح الضلي الذي حاكم كوهين وحكم عليه بالإعدام ، ويثير إبراهيم الاهتمام بما كتبه اليوسفي بقلم أخضر على حاشية الملاحظات «كتب أكرم الحوراني الذي حكم عليه بالإعدام وعاش منفياً طيلة حياته. يصف قصة إلياهو في مذكراته «لقد كانت محاكمة كوهين مهزلة من المهازل، وإهانة لذكاء الشعب في سوريا، وفصلا من فصول الكذب والتزوير الذي ما زال يعم عالمنا العربي حتى الآن»، وفي مذكراته يقول أكرم الحوراني «لقد كان هدف كوهين السعي لتوجيه حزب البعث بما يلائم سياسة إسرائيل في سوريا والمنطقة العربية».
ستحدق عين الشرق في وجوه كثيرة كان لها دور ما في حراك دمشق ، وهي نوعان :
- أولهما وجوه شخصيات عامة من سياسيين وعسكريين وأدباء وفنانين هم من النخب المعروفة لدى العامة ، ويمضي السرد مع أحدهم بحسب أهمية صلته برؤية السارد أو بحسب أهمية حضوره في أحداث الرواية ، وثمة دافع غير خفي لذكر عابر لبعض الشخصيات الهامة دون توقف طويل ، هو ألا يغيبوا عن عين الشرق ، لكن الرواية لاتتسع لهم جميعاً ..
ثانيهما – وجوه يعرفها المؤلف ويجعل منها شخوص روايته الخاصة ، و ليس مهماً أن يكون بعضهم مجرد شخصيات روائية يجسدها المؤلف في البعد الواقعي لبناء الشخصيات ، أو أن يكون بعضهم الآخر شخصيات حقيقية يعرفها عن قرب ويحكي عنها .
في النوع الأول سنجد عصام العطار الذي اعترف للمؤلف أن أهداف حركة الأخوان كانت أبعد من سورية ، ولن يفلت إبراهيم بمناسبة الحديث عن العطار ذكر جريمة قتل زوجته بنان علي الطنطاوي في ألمانيا من قبل مأجورين سوريين لم يلاحقهم أحد .
وسنجد الشاعر سليمان العيسى وسنديانة البعث في الأرياف السورية حيث تنشد قصائد الحماسة القومية ، وسنجد موريه العراقي اليهودي حفيد الحاخام مائير ، الذي يقدم نفسه باسم ( سامي المعلم ) وستظهر عين الشرق معلومات خفية عن الشاعر أدونيس ، يكشفها ناجي الذي خدم في المخابرات واطلع على سجلات هامة وأوراق كان بينها نص شعري لأدونيس الذي كان زميلاً في الشعبة الثانية للمخابرات باسمه الحقيقي علي أحمد سعيد ، وسيظهر حضور خاص للشاعر العراقي مظفر النواب ولايفوت إبراهيم أن يذكر أن النواب قرأ كتاب أدونيس عن الحركة الوهابية (وقد ألفه مشاركة مع زوجته خالدة السعيد) وربما يذكر ذلك كي يقول (كان مظفر مندهشاً من قيام شاعر يدعي أنه علماني بالكتابة عن مؤسس الوهابية، وتقديمه على أنه رائد من رواد عصر النهضة العربية)!!.
ولكن عين الشرق تأملت طويلاً حالة مظفر النواب ومرضه ، بوصفه صديقاً للكاتب، وقد عبرت أمام المؤلف شخصيات وأحداث كثيرة ، منها محاكمة سليمان المرشد الذي ادعى الألوهية ، ومنها شخصية عبد الرحمن الشهبندر ، وعدنان المالكي ، وشخصية تاجر قمر الدين الكبير ناظم رئيس المحفل الماسوني ( وقد تجنب المؤلف ذكر اسمه الحقيقي الذي اشتهر به ) وشخصية ياسين الحافظ الذي أعجب إخاد اليهودي برأيه حين عرض خوف الأقليات من الديموقراطية لأنها تجعلهم يذوبون في الأكثرية . وثمة شخصيات عديدة مماثلة شكلت جميعها الإطار التوثيقي للأحداث ومنحت الرواية قيمتها التأريخية التي لاتدعيها بوصفها سرداً ، ولكنها تشكل أعمدة البناء الهندسي والفكري للرواية .
وأما الشخصيات الروائية التي تدور حولها عين الشرق ، فأهمها أبطال مجموعة (حراس الأرض) وأصدقاء إبراهيم الحقيقيون والافتراضيون ، وهو يبني سرده الخاص على ناجي الرسام العجوز بوصفه كاشف الأسرار وحافظ الكنوز ، ثم يقدم لنا رفاقه ومعارفه ( ناصر الديري الذي يحاور النفري على حواشي كتابه ، ويسار – الذي خاوى الجن – وجمال الشاعر – الخجول والحربوق – ومعسرتي القادم من الجزيرة وهو من أصل إيراني ، وصديقه رشيد وهما وجهان متناقضان ، وآصف الذي يطيل لحيته كي يبدو يسارياً ، وكاسر ( الديري) وروح الله ، وحسين المهاجر العلوي وهم أبرز شخصيات حراس الأرض ، وعدنان وسليمان وعماد ، وآخرين يضجون بالحياة مثل فادي وببغاواته ومعشوقته ستناي ( واسمها يعني ألهة الجمال عند الشراكسة).
لكن هناك شخصيات حارة بقوة رغم أنها تبدو غائبة أو شبه غائبة عن التفاصيل ، وأهمها شخصيتان ، إحداهما من شخوص الرواية (وهي سلمى) التي بوسع الناقد أن يراها بطلة لاتغيب ، وبوسعه أن يراها مجرد حاشية تمنح الرواية لحناً شجياً ، أو نفحة شاعرية .
وأما الشخصية الثانية فهي التي لم يبح باسمها المؤلف ، ولكنه لم يغب عنها ، ولم يخف ملامحها الواضحة ، وهي شخصية حافظ الأسد ، وقد اختار المؤلف من تاريخها الخطير لحظة المرض وصراع الأخوين في الثمانينات .
وستبرز شخصيتان هامتان يحكي عنهما المؤلف بتدفق ثقافي مبدياً تأثره بهما ، وهما شخصية خاله الكاتب والناقد صبحي الحديدي ، وشخصية الفنان يوسف عبدلكي .
ولكي لاتبدو الرواية مفتقرة إلى الحضور النسائي كانت سلمى تظهر كالزهر البري على ضفاف نهر الفرات ، وكانت ستناي تجسد عوالم الرغبة ، بينما تظهر أخريات صديقات أو عابرات ، مثل ردينة التي أقنعت غازي كنعان بالسماح للعلويين ببناء منازل في أراضي المزة التي سيطر عليها رفعت الأسد.
ولايغيب عن إبراهيم أن يشير إلى قضايا سياسية ذات خفايا هامة مثل مقتل الحريري ، وما رواه له زياد زياد ، وإلى مقتل عماد مغنية ، ومقتل غازي كنعان ، وإلى شخصية غامضة هي ألويس برونر الألماني النازي اللاجىء في دمشق بعد أن قتل الآلاف في عهد هتلر ، وهو صاحب فكرة الكرسي الألماني (كما قال) ، كما يشير إبراهيم إلى مأساة حماه في الثمانينات ، وتحضر الثورة السورية عام 2011 في الرواية دون أن تكون تأريخاً لها ، وربما جعلها إبراهيم نهاية الرواية مع اندلاع الثورة كي تكون بداية رواية جديدة ترصدها (عين الشرق) .
وكان طبيعياً أن نجد مصائر شخصيات الرواية تراجيدية في الغالب ، فالفنان كاسر وجد ميتاً في غرفة منزله في دير الزور ، وعدنان العجوز وجد مقتولاً في بيته الذي أحرق ، وعاد عماد إلى دير الزور فاعتقلته داعش وقيل قطعت رأسه ، وأما فادي وستناي فقد هربا واتفقا على الزواج ، وأما سمير فقد توفيت زوجته بالسرطان وهاجر نحو تركيا ولكن قيل إن داعش اعتقلته في الطريق وقطعت رأسه ، واختفى ناصر في الإيمان الصوفي ، وأما عن الراوي ذاته ، فهو يقول ( وبقيت محبوساً مع إخاد ) .
لكن المشهد الأخير كان لأطفال درعا الذين كتبوا على الجدار ( إجاك الدور يا دكتور) .
وتبدو الرواية أقرب إلى فن السيناريو السينمائي ، ولن يجد من يحولها إلى فيلم أو مسلسل تليفزيونى أية صعوبة ، ذاك أن إبراهيم يعتمد في السرد على أسلوب التقطيع المشهدي ، فضلاً عن إعداده الحواريات قصيرة ، حية ليس فيها إسهاب أو حشو يحتاج السيناريست إلى اختصاره أو محوه .
كما أن الرواية تمضي في هندستها وعمارتها للأحداث في موازنة دقيقة للأزمنة ، رغم التداخل بين ماهو تاريخي وماهو راهن ، لكن التاريخ في الرواية يبدو معاصراً وهذا ما جعل الكاتب يمزج الأزمنة فيبدو الحدث كله طازجاً.
وقد ساعد فن السيناريو المشهدي على تخلص الرواية من المقدمات ومن التمهيد ، و دفع الكاتب إلى الاهتمام البارز بالمكان ، فهو يصف فضاء المشهد ، ولكن إبراهيم لايجعل الأمكنة مجرد فضاء لابد منه، وإنما يدخلها في الحدث ، ويجعلها جزءاً من حياة الشخوص ، وشاهد تاريخ ومعاصرة .. (تنزل الدرجات الاثنتي عشرة عبر الباب العتيق المخرّق بالمسامير العملاقة، تموج بك الأرض، تعلو وتنخفض، دوارٌ ممتع خفيف وثقيل، إن انعطفت يساراً نحو صُنّاع العجمي الدمشقي الفاتن، حيث ورشة صانع الميداليات الجصية، وورثته الصغار، المكان الذي عملتَ فيه يوماً، دون أن يبقى في ذاكرتك منه شيء، حتى لا يفقدها عقلك سحرها، وربما حتى يخالطها مع وهم قديم).
وهو حين يدقق في تفاصيل اللوحات ينبئك عن دور التشكيل في حياته ، ويظهر الفنان في داخله مع تأمل اللوحة ، يحدثك عن الفنان بشار العيسى الكردي (حتى في لوحته التي تبدو التلال فيها منسوجة من مربعات ملونة. تعلو طريقاً برتقالية اللون. لكن بشار العيسى كان بالفعل، أول من ابتكر الأفق. ليس في الفن الكردي وحده. بل في اللوحة السورية. ابتكره في أعلى اللوحة وأغلقه من فوقه) تدرك أنه ناقد تشيكلي ، يتوقف مع لوحات الحلاج وموفق قات ، ولكن يوسف عبدلكي يأخد الاهتمام الأكبر وهو يبوح بتأثره بفنه (كان يوسف بمثابة الكاهن الشاب بالنسبة إليّ. لم يكن مجرّد رسام )..
هذا التزيين للسرد بما توحي اللوحات ينثر في الرواية نوعاً من الجاذبية نحوالتأمل .. وقد أضاف إلى الرواية ما يبقى شفافاً في روح القارىء وفي مخيلته .
ولاتغيب الموسيقى عن حيوية المشهد الروائي ، من موسيقى «نى نوا» إلى موسيقى نوري اسكندر السريانية ، إلى موسيقى الغجر ، وإلى الوتريات في الحجر الدمشقي .
وأما الشعر فهو طيف الجمال الذي يسكب العذوبة في لغة الرواية (كان عالمي يرتعد، تهوي فيه أشجار كينا وصنوبر بعيدة، وتفزّ منه أسراب طيور صغيرة حمراء وزرقاء. سنوات طويلة، انفصلت فيه حواسي عن الآخر. وصرتُ أعيش وحدي في تمثال الخزف الذي أراه في مرآتي كل صباح) وستجد الشعر شاهداً في إبداع سليم بركات ومظفر النواب وحتى فيما اقتطف ناجي من بين أوراقه من قصيدة لأدونيس يمدح فيها شكري القوتلي (أشكري وإن الشكر باقٍ تصونهُ/غطارفة عد لهن ألسنة لدُ/ إذا حذفتْ ياء ولامٌ من اسمهِ/بدت قوةً لا يستطاع لها ردُّ/فنحن كما شئتم قيامٌ بأمركم/ونحن على آثاركم أبداً نعدو») ..
وتزركش الشعرية لغة الرواية لتكشف أن الروائي شاعر كما هو رسام (جسد سلمى ليلة دمشقية. روحها الجوزاء وهي تدور حول الشام. راحتا يديها ورق الشجيرات الغض على مجرى النهر ).
وربما يجد الناقد أن وفرة الشخصيات قد أضرت في بروز تفاصيل أبطالها وأعماقها ، رغم أنه أعطى بعضهم حقه ضمن السياق ، لكن بطل الرواية الحقيقي الذي لم يدخلنا بعد إلى أعماقه هو الراوي ، وعين الشرق عينه .

رياض نعسان آغا
وزير الثقافة السورى الأسبق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.