عبد الرحيم رجب الحُبّ؛ هو ماء الحياة، وغذاء الرُّوح، ووقود النَّفس، به تتآلف النُّفوس، وبه تدُوم السَّعادة والعطاء، تشتاق القلوب إليه لتدفق بالمشاعر العذبة الرَّقرَاقة؛ فهو أسمى المشاعر الإنسانية وأرقاها، بل هو أرقى ما في الوجود، امتدت آثاره إلى جميع الكون حتى وصلت إلى الجماد؛ فنرى الجِذع اليابس الذي كان يتَّكئُ عليه رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- وهو يخطُب، يبكِي شوقًا إلى يد الحبيبِ بعدما فارقتهُ، فنراه يئنُّ من ألَم الفراق، فينزل الحبيبُ من على منبره، ويضمَّه إلى صدْرِه حتَّى يسكُن الجزع، ولم تكن هذه الواقعة الفريدة من نوعها؛ فها هو جبل أحُد يهتزُّ حبًّا للرَّسول وصحبه فرحًا بهم عندما وقف رسولُنا الكريم، وأبو بكر وعمر وعثمان عليه؛ فَهَمَس به الحبيبُ: "اثبت أُحدُ؛ فإنَّما عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان"، فهذا هو الحبُّ الحقيقيُّ، حبٌّ حرَّك الجماد وبثَّ فيها الرُّوح والحياة شوقًا إلى المحبوب. فالحُبّ في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن مجرد كلمات؛ بل كان أفعالًا وتصرفات، فها هو نبيُّنا الكريم عائدٌ من السفر، فيأمر أصحابه بالتقدّم عليه في السير، ثم يقول لعائشة: سابقيني، فيتسابقان، فتسبقه، ثم يُكرّر الأمر في سفرة أخرى بعدها بفترةٍ طويلة، ويسبقُها هذه المرّة، فيداعبها ضاحكًا: "هذه بتلك"؛ أليس هذا حُبًّا؟! وها هو نبيُّنا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- يدعو عائشة لمشاهدة الأحباش؛ وهم يلعبون بالحراب في المسجد، فيسترُها بجسده الشريف وهي تقف خلفه مُتّكأةً عليه، دون كَللٍ أو مَللٍ منه، بل نراها تقول: وكنتُ أتعبُ فأجلس أستريح ثم أقوم، حتى كنتُ أنا التي مَلَلت، فبرغم كثرة مشاغل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينشغل يومًا عن أهل بيته والسمر معهم، أليس هذا حُبًّا؟! ولم يكن النبيّ في بيتِه قائدًا ولا رئيسًا؛ بل كان زوجًا مُحبًّا لأهل بيته يرعى شئونهم ويهتم بهم باسمًا ضاحكًا متلطفًا بهم، فها هي عائشة تروى لنا عندما تزوّجت النبي –صلى الله عليه وسلم- وانتقلت من بيت أبيها إلى بيت النُّبوة، فأخذت معها لعبها وجمعتها على رفٍّ في حجرتها واضعةً عليها ستارة وكأنّها بيتٌ للألعاب؛ فنرى النبي -صلى الله عله وسلم- يكشف الستر عن لعبها، ويقول لها وهو يداعبُها يا "عائش" ما هذا؟! وهو يعلم ولكنه يفعل ذلك ليُشعرُهَا أنّه مهتمٌّ بها وبألعابها، فتقول: هذه بناتي، فيقول: وما هذا الذي بينهنّ؟ فتقول: فرسٌ له أجنحة، فيقول لها: والفرسُ له أجنحة؟!لترد وتقول: أما علمت أنّ نبي الله سليمان كان له فرسٌ بأجنحة، وما كان يفعل النبيّ ذلك إلا ليخلق حوارًا معها ليُشعرها باهتمامه بها وحبِّه لها، بل ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب بل كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنّها تُحبّ اللعب مع صويحباتها، فعندما كان يَراهُنّ يُرسلُهنّ إليها ليلعبن معها ليُدخل السُّرورَ على قلبِها ويُبعد عنها المَلَل. ويصل الأمر بالسيدة عائشة إلى رواية العديد من المشاهد النَّبويّة والتي تُبرهن على شدَّة حُبّ النبي لأهل بيتِهِ وتعلُّقهِ بهم رحمةً ورأفةً بهم، فتقول: "كنتُ إذا أكلتُ من طعامٍ أخذه النبيّ ووضع فاه على موضع فِيَّ، وإذا شربت من إناء أخذه النبيّ ووضع فاه على موضع فِيَّ"، ليتتبع أثر فمها في المأكل والمشرب حُبًّا وكرامةً لها، وبل وتقول: "كان يتكئ في حجري وأنا حائض"، مؤكدةً على عدم نفوره وابتعاده منها في هذه الحالة، وتقول: "كان يدخل لي رأسه من المسجد حتى أُرَجِّلَه له"؛ أي: أقوم بتسريح شعره الشريف، ولم ير النبيُّ الكريم مانعًا من الإعلان عن حبِّه لها، قائلًا: "إنّي رُزِقت حبّها". ولقد عاش نبيُّنا الكريم الحُبّ في واقِعِه مع زوجاته، كما عاشه في ذكرياته، حتى قالت السيدة عائشة: "ما غِرتُ على امرأة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما غِرتُ على خديجة؛ لكثرة ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيَّاها وثنائه عليها"، فقد ظل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يعيش ذكريات أول حبيبةٍ له في حياته، ولو بعد وفاتها بسنين. وكما عاش النبيُّ الحُبّ، دعا غيره له، فقال: "خيركم خيركم لأهله"، "واستَوصُوا بالنِّساء خيرًا"، آمرًا المسلمين والمسلمات بالحُبِّ وحُسن المُعاشرة، أليس هذا هو الحُبّ؟! نعم,,, إنّه حبُّنا الطَّاهر العفيف؛ الذي ينمو في حديقة الزواج وارفة الظلال، في ظلِّ شرعنا الحنيف، وبتعاليم نبيُّنا الكريم؛ ليكون حُبًّا أبديًّا لا يزول ولا ينتهي أبد الدهر.