أصبح من المتعارف عليه في معرض تقييم مرحلة من المراحل أن توصم بتغليبها في الخيارات القيادية لأهل الثقة علي أهل الخبرة, حتي بات مصطلح أهل الثقة من التعبيرات سيئة السمعة التي انضمت إلي أخواتها كالبيروقراطية والروتين وغيرهما من الإصطلاحات التي صيغت أساسا بمفهومها الإيجابي ثم لم تلبث أن غايرته في المحك السياسي. حتي كاد تعبير أهل الثقة الذي نحن بصدده يستقر في الأذهان مقابلا عكسيا لتعبير أهل الخبرة. والواقع أن مرجع ذلك إنما يكمن في أن تولي المناصب القيادية قد شابه في كثير من الأحايين توسد الأمر لغير أهله, استنادا لمعايير المعرفة الشخصية دون القدرات الفعلية أو إعلاء لقيمة الولاء علي حساب الأداء. الأمر الذي أفرز ذلك المفهوم المغلوط الذي يجعل من الثقة والخبرة طرفي تقابل لا تكامل في معادلة الخيار القيادي. ومما لاشك فيه ان تكريس هذا المفهوم قد مر بمراحل تاريخية ارتبطت تارة بالشرعية الثورية وتارة أخري بالالتزام التنظيمي سواء في مجتمع الحزب الواحد أو في ظل التعددية, وتارة ثالثة بدوائر التوظيف المؤسسية التي تقصر التعيين فيها أو علي الأقل الأولوية فيه لأبناء العاملين بها مما يحرم مؤسسات المجتمع من ميزة الانتخاب الطبيعي, ويفقده بالتالي أهم آليات التقدم, وهي عنصر التنافس القائم علي معايير الكفاءة والخبرة وجودة الأداء. وقد عمقت التجارب المجتمعية في مجالات شتي هذا المفهوم, حيث بات أحيانا, وعلي سبيل المثال استبقاء أهل الثقة في مناصبهم مددا طويلة إحدي السمات السلبية لهذا المفهوم ربما علي طريقة( اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش), فضلا عن ترضيات نهاية الخدمة التي جعلت من تقلد بعض المناصب تشريفا لا تكليفا, أو السعي لتعيين عناصر بمواصفات خاصة وبأسلوب سكن تسلم. رغم ما تشي به دروس التاريخ من مغبة هذه التجارب التي تنخر كالسوس في بنيان المجتمع, إذ أن هشاشة عظامهو ومن ثم أساسه المكين تجعل من السهولة بمكان الإتيان عليه من القواعد. وما حاق بالاتحاد السوفيتي من جرائها ليس عنا ببعيد, حسبما أكدته تلك القصة الشهيرة بين رئيس المخابرات السوفيتية وبين نظيره في إدارة اختيار القيادات المركزية. ومما لا شك فيه أن اجتماع الكفاءة والخبرة في الشخصية القيادية فضلا عن مؤهلات الفروق الفردية وبعيدا, في هذا الصدد تحديدا عن أكذوبة الكاريزما أو الشخصية الملهمة, إنما هو الذي يولد الثقة الحقيقية في قدراتها. كما أنه بقدر ما تؤدي استاتيكية التداول إلي تهميش أدوار الصف الثاني أو مصادرتها, فإنني أري أن قضية إعداد الكوادر لا ينبغي أن تقتصر علي تأهيل الصف الثاني بل ينبغي أن تنسحب علي تهيئة الصف الأول لنقل الخبرة طائعا مختارا, فضلا عن معايشة الواقع بقبول تعاقب الأجيال الذي يفرض لكل زمان دولة ورجالا. أما التمسك بأهداب الموقع وارتشافه حتي الثمالة ثم التباكي علي افتقاد البديل في مآتم البكاء الرسمي ذرا للرماد في العيون أو إرضاء ظاهريا للضمائر من جانب, أو الصراخ في البرية كمدا, والانسحاب من المشاركة يأسا من جانب آخر, فمن شأنه تعميق الهوة بين مفهومي أهل الثقة الفعلي منهما والمستحدث. وما من شك في أن وجود ما يسمي بقيادي الظل علي غرار وزارة الظل في كافة المؤسسات من شأنه خلق روحا تنافسية إبداعية وفكرا ديموقراطيا يعلي من شأن جماعية الأداء بدلا من التمحور حول فردية التناول فضلا عن طرح آلية رقابية مؤسسية تتبني بحق مفهوم الثواب والعقاب, من شأنها أن تفضي إلي ديناميكية مجتمعية ذات مردود إيجابي لن تجدي معها قيادات المصادفة أو أهل الثقة من ذوي المؤهلات الخاصة!!! الذين ما إن يتبوأوا مناصبهم حتي يستشعروا وكأنهم في بحر الظلمات مرددين المقولة الشهيرة لمرزوق بطل الصورة الدرامية الإذاعية القديمة( يا لطيف اللطف يا رب). المزيد من مقالات د. حسن السعدي