سألني سائل في منتصف شهر يونيو الماضي عن تصريح أدلي به أحد السادة المسئولين مفاده أن مستوي الفيضان في العام الحالي سيكون اعلي من المتوسط وكانت إجابتي ان الوقت, لايزال مبكرا علي مثل هذا التنبؤ وأني اظن ان السيد المسئول قد جانبه الصواب في الإدلاء بهذا التصريح في هذا الوقت. ولعل رأيي السريع والمباشر قد نبع من معرفة بمصادر مياه الفيضان التي يأتي معظمها وعلي وجه التحديد ما يقارب85% منها من المرتفعات الاثيوبية التي يكون الهطول المطري عليها موسميا ويستمر خلال الفترة من أول شهر يونيو وحتي منتصف شهر سبتمبر من كل عام ثم يستغرق انتقال الجريان السطحي الناتج عن هذه الامطار من البلاد الاثيوبية وحتي البلاد المصرية ما يقارب الشهر من الزمان, بمعني ان التقييم الصحيح لموسم الفيضان لايمكن ان يتم بالشكل الدقيق إلا في النصف الثاني من شهر اكتوبر. ولا اشك في ان السيد المسئول الذي ادلي بهذا التصريح يعلم جيدا هذه الحقيقة إلا انه تفاءل خيرا بكثافة الامطار التي هطلت علي الهضبة الاثيوبية في بداية الموسم وظن ان معدلات الأمطار ستستمر علي هذا المستوي المرتفع فكان ان ادلي بهذا التصريح الذي قد يكون في غير الصالح العام ذلك لان صدور مثل هذه التصريحات الوردية والمطمئنة والمتفائلة لها فعل السحر في تكوين شكل وضمير وفكر الرأي العام في البلاد ولا أدل علي ذلك من انباء صدرت عن وزارة الموارد المائية والري مفادها ان مساحة الأرز التي تمت زراعتها بالمخالفة هذا العام تزيد علي المساحة المقررة التي تبلغ حوالي مليون فدان بما يتراوح بين500-700 ألف فدان ومن الطبيعي ان يكون هذا التجاوز علي حساب محاصيل اخري تزرع في نفس وقت زراعة الارز اهمها الذرة والقطن والفول السوداني والخضراوات والفواكه ومن الطبيعي ايضا ان يكون هذا التجاوز قد امتد الي الاستخدامات الاخري مثل مياه الشرب والاغراض المنزلية والعامة والصناعة والسياحة وغير ذلك. الطريف ايضا ان الظروف السياسية التي تمر بها البلاد قد ادت الي ان يترك هذا المسئول موقعه وبمجرد ان اعتلي المسئول الجديد كرسي المسئولية بادر بالتصريح مجددا بان المتوقع ان يكون فيضان هذا العام في مستوي اعلي من المتوسط وبالرغم من مرور شهرين علي التصريح الاول فإن هذا التقدير ايضا قد جانبه الصواب للسبب نفسه الذي سبق ان اشرت اليه وهو ضرورة الانتظار حتي نهاية موسم الامطار واعطاء الفترة الكافية لانتقال الجريان السطحي الي الحدود المصرية.وقد شاء المولي عز وجل ان يكون الرد علي اطلاق التصريحات السابقة فوريا وحاسما إذ افادت الانباء انه اعتبارا من يوم10اغسطس استقر منسوب المياه في بحيرة ناصر عند مستوي يقارب171 مترا فوق سطح البحر وهو منسوب يقل كثيرا عن منسوب تمام امتلاء البحيرة(178 مترا) بما يعني ان الوارد من المياه يماثل في الكمية ما ينصرف منها وفي الايام التالية انخفض منسوب البحيرة بشكل منتظم يوما بعد يوم, اي ان الايراد اصبح يقل عن المنصرف ونظرا لاننا لانزال في منتصف الموسم فان الامل في الله كبير في ان يعود الهطول المطري الكثيف الي السقوط علي الهضبة الاثيوبية وان تستعيد مناسيب المياه في البحيرة ارتفاعها قبل ان ينتهي موسم الامطار اما اذا استمر تناقص مناسيب المياه في البحيرة حتي نهاية الموسم فان ذلك ربما يدل علي اننا في موقف صعب. ومن المحتمل ان يكون السبب في انخفاض الوارد من المياه بالاضافة الي العجز في الهطول المطري الي انهماك اثيوبيا والسودان ايضا في ملء الخزانات التي تقع امام السدود التي انتهي العمل في انشائها مؤخرا كذلك يمكن ان يعود السبب في ذلك الي الاستخدام المفرط في كلتا الدولتين للمياه في زراعة مساحات كبيرة تصل الي ملايين الافدنة والهكتارات يقوم علي تنميتها وزراعتها العديد من الدول في المشرق والمغرب والشمال والجنوب. أعود وأقول أني لم استغرب تصريحات السادة المسئولين رغم اعتراضي علي الإدلاء في حينها ذلك لان الدولة ونظامها الرسمي قد دأبت علي اعتبار ان قضية الفيضان وارتفاعه وانخفاضه قضية سياسية تدخل جميعها ضمن انجازات الوزارات والمسئولين فيها هذا في الوقت الذي لم تكن تحاسب فيه الدولة ونظامها الرسمي السادة المسئولين عن الادارة الجيدة للمياه بدليل ان كل المحاولات التي تعرضت للتحكم في المساحة المزروعة بالارز قد باءت عاما بعد عام بالفشل الذريع وان جميع خطط الدولة لترشيد استخدام المياه لم تأت حتي الآن بثمرة واحدة من الثمار المرجوة منها أعطي علي سبيل المثال لا الحصر بعض النماذج التي اخفقت اجهزة الدولة المختلفة في التعامل معها في قضية ترشيد استخدام الماء ومنها: 1 لايزال متوسط استخدام الفرد المصري من مياه الشرب النقية مرتفعا بكل المقاييس الاقليمية والدولية. 2 ان سبب الزيادة الكبيرة في معدل استهلاك مياه الشرب يعود الي ان الفاقد من المياه يزيد علي40% واظن ان استقطاب هذه الفواقد وخفض معدلاتها يمكن ان يوفر الكثير من المياه النظيفة والنقية والمبالغ المالية التي تنفق في معالجتها. 3 من غير المفهوم ان تتعامل الدولة بنفس الشريحة والمساواة في دفع فاتورة المياه مع المواطن الذي لايملك ألا صنبورا واحدا في منزله والمواطن الذي يملك اكثر من حمام سباحة في القصر او الفيلا او الشاليه. 4 هناك محاصيل تمتاز بأن العائد النقدي منها كبير واستهلاكها للماء متواضع والطلب علي هذه المحاصيل في التصدير مشجع ومن المفيد ان توجه الدولة الزراع الي مثل هذه الاتجاهات التي تزيد من كفاءة استخدام المياه فنيا واقتصاديا. 5 ليس من الطبيعي ان تروي بعض المحاصيل التي تؤكل طازجة او حتي بعد طبخها بمياه اقل جودة بينما يستخدم الماء النقي والنظيف في ري المسطحات الخضراء وملاعب الجولف داخل المنتجعات 6 كما انه ليس من المعقول ان تستهلك محطات توليد الطاقة الكهربائية هذه الكميات الهائلة من المياه في عمليات التبريد ولاتدفع اي مقابل لهذا الاستهلاك بالرغم ان معدلات تحصيلها من فواتير استهلاك الطاقة الكهربائية. 7 علي الصناعة ان تغير من مفاهيمها في استهلاك المياه وان تعيد تدوير مياه الصرف الناتجة عن العمليات الصناعية بعد معالجتها8. علي السياحة ايضا ان تتجه للعائمات الاصغر حجما والتي لاتحتاج الي عمق كبير للمياه في المجاري المائية. لو أن الدولة قد قيمت عمل المسئولين بالاجراءات التي اتخذوها للحفاظ علي المياه وترشيد استخدامها لكان الوضع قد فاق بكثير ما نحن عليه الان نتيجة تقييم عمل المسئولين علي مياه الفيضان كثيرة كانت او قليلة وهو امر يخرج عن ارادتهم ولايحكم عليه ويتحكم فيه إلا رب الأرباب. المزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي