هل هي مجرد مصادفة في هذه الحقبة من التاريخ؟ أم أنها مؤامرة خارجية صهيونية الهدف؟ أم نتيجة حتمية لخطايا الحكام المستبدين الجهلاء؟ الإجابة أنها كل ذلك, وأكثر. انظروا حول مصر وإسرائيل, وسوف تتفقون معي علي الفور أنه لم يعد باقيا علي تماسكه وقدراته القتالية من الجيوش العربية أمام إسرائيل سوي الجيش المصري. فحتي بداية هذا القرن الحادي والعشرين كانت هناك حول إسرائيل ثلاثة جيوش نظامية عربية قوية, هي الجيش السوري, والجيش العراقي, بالإضافة طبعا إلي الجيش المصري, وإذا عدنا إلي الوراء عدة عقود قبل أن يبدأ القرن الجديد, فقد كانت الجزائر تمتلك جيشا قويا هي الأخري, وكان في ليبيا مشروع لتكوين جيش قوي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي, فأين هذه الجيوش الآن؟ مع الاعتراف بأن الجزائر وليبيا لم يسهما بصورة مباشرة في أية حرب مع إسرائيل, ولكنهما مع العراق كانا في أوقات كثيرة قوي مساندة مهمة لجيوش المواجهة, خاصة عقب هزيمة1967 وفي حرب أكتوبر المجيدة عام.1973 نبدأ بالجيش الجزائري الذي انخرط منذ عام1992 وحتي الآن في حرب أهلية تقريبا, ووقع كما يقول المعارضون الجزائريون في قبضته بضعة جنرالات احتكروا كل شيء في البلاد من رغيف الخبز حتي القرار السياسي, وجاء الدور بعد ذلك علي الجيش العراقي الذي خرج من حرب صدام حسين الرعناء وطويلة الأمد ضد إيران, وهو محسوب ضمن أقوي الجيوش في الشرق الأوسط, ولكن سرعان ما ورطه صدام في جريمة غزو الكويت, لتبدأ حلقات تصفية هذا الجيش بهزيمته المخزية أمام قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت, ثم بانشغاله في المعارك ضد الشعب العراقي نفسه في انتفاضة البصرة, وثورة الأكراد, حتي فرض عليه الحظر الجوي جنوبا وشمالا, إلي أن قرر المحافظون الأمريكيون الجدد( وأغلبهم صهيونيون) غزو العراق في عام2003, وكان أول قرار اتخذه الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر كما نذكر جميعا هو حل الجيش العراقي وتسريح جنوده وضباطه, وبالطبع فإن العراق الجديد لن يسمح له بامتلاك جيش بهذه القوة مرة أخري ما بقي الأمريكيون مهيمنين عليه, وما بقي نظامه السياسي قائما علي أساس المحاصصة الطائفية. وأما الجيش السوري الذي كان شريكا رئيسيا لجيشنا المصري في حرب أكتوبر, فانظروا ما يحدث له من قيادته السياسية والعسكرية, وما يحدث منه ضد الشعب السوري بطول البلاد, وعرضها, فهل يمكن أن يخرج جيش أصبح يحارب شعبه في كل المدن والقري من هذه الحرب دون جراح غائرة ومميتة؟ هذا إن خرج النظام السياسي السوري من أزمته الخانقة الحالية بإخماد الثورة الشعبية الديمقراطية لا قدر الله, أما إذا انتصرت الثورة وهذا ما نتمناه لإخواننا السوريين فسوف يمر وقت طويل حتي يعاد بناء جيش وطني سوري مؤثر في حسابات وموازين القوي الإقليمية, وربما لا يكون مسموحا لسوريا هي الأخري بتكوين مثل هذا الجيش أبدا ثمنا لمساندة المجتمع الدولي للثورة السورية, ليس فقط في الانتصار علي نظام الحكم الطائفي المجرم, ولكن أيضا ثمنا للمساهمة في إعادة بناء سوريا بعد سقوط النظام. وامتدادا للكارثة التي أصابت الجيش السوري, فإن قوة أخري مؤثرة في حسابات القوي الإقليمية سوف تخرج من هذه الحسابات عاجلا أم آجلا, وهي قوة حزب الله في لبنان, بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع الموقف السياسي لهذا الحزب داخل لبنان وخارجها, إذن أننا نتحدث هنا فقط عن الجيوش العربية, وغيرها من قوي المقاومة المسلحة في مواجهة إسرائيل. يبقي أن نتحدث عن حال الجيش الليبي, وهو حال لا يخفي علي أحد, فقد تفكك هذا الجيش بدوره, وعلي الأغلب أن الثورة الليبية المنتصرة لن يكون من أولوياتها بناء جيش قوي, وإن كان بناء جيش وطني جديد من أولي مهامها, فسوف يكون تجنيا علي الحقيقة من جانبنا أن نعتبر أن جيش ليبيا كان قويا ومؤثرا في حسابات القوي الإقليمية طيلة العقود الأخيرة من حكم القذافي التعيس, فقد كان حاكم ليبيا المخلوع قد حول هذا الجيش إلي ميليشيات قبلية موزعة القيادة والولاء بين أبنائه, وأخرج منه علي دفعات كل الضباط الوطنيين المحترفين. كما سبق القول فإن أسباب انهيار الجيوش العربية عدا الجيش المصري بحمد الله أكثر من مصادفة, وأكبر من مؤامرة, وأعقد من خطايا الحكام الطغاة الجهلاء, وإذا عرفنا هذه الأسباب, فسوف نعرف أسباب تميز جيشنا الوطني العظيم. تلك الأسباب يمكن إجمالها تحت عنوان رئيسي هو فشل بناء الدولة الوطنية في معظم البلدان العربية عدا مصر, فقد انجرفت سوريا والعراق إلي مستنقع الطائفية والعشائرية منذ تولي الحكم في سوريا الأسد الأب, ومنذ تولي السلطة في العراق صدام حسين, ولايهم هنا اللافتات التي كانت مرفوعة في بغداد, والتي مازالت مرفوعة في دمشق متحدثة عن الوطنية والعروبة. وأما ليبيا فقد أذكي فيها القذافي روح القبلية, ومزق شعبها قبل أن يمزق جيشها, وفي الجزائر تحول الجيش إلي ميليشيا تحمي أقلية حاكمة مكونة من تحالف العسكر والتجار, في مواجهة شعب مزقوه بين إسلاميين وعروبيين وفرانكفونيين وأمازيغ. كان من الطبيعي إذن أن تقع تلك الجيوش فريسة الفشل السياسي في بناء أمة حاضنة لجيشها, وبناء جيش يحمي أمته بدلا من أن يكون هو قاتلها, أما مصر وجيشها فليسا كذلك, لأن مصر هذه هي أقدم أمة في التاريخ, كما قال شاعرنا العبقري الراحل صلاح جاهين, حتي إذا اعترفنا بأن هناك تنوعا ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا بين مكونات الأمة المصرية, لأن التنوع داخل مصر هو التنوعالفرعي الطبيعي في كل أمم العالم الناجحة القديم منها والحديث, وهكذا فإن الجيش المصري منذ بنائه مع قيام الدولة الحديثة في مصر علي يد محمد علي باشا قام جيشا وطنيا خالصا, وانتمي إلي شعب مصر بأكمله, وليس إلي طائفة أو قبيلة أو إقليم, وعبر هذه الحقب مر الجيش المصري بتجارب واكتسب خبرات, وأرسي تقاليد جعلته مؤسسة متماسكة واضحة الرؤية والعقيدة, كاملة الانضباط والاحتراف, تحظي باحترام شعبها وتحترم هي شعبها, وللتذكرة فقط فقد كان الباعث الأول للثورة العرابية, هو تمصير قيادة الجيش المصري وتقويته, ثم تطورت دوافع العرابيين إلي مقاومة النفوذ الأجنبي, وفرض حق الشعب في حكم نفسه بنفسه بالديمقراطية البرلمانية. وعلي الرغم من أن المحتل البريطاني كان قد قرر تسريح الجيش بمجرد دخوله القاهرة فإن الجيش الذي أعيد بناؤه جاء وطنيا خالصا, ولم يستطع الاحتلال برغم سيطرته المطلقة علي كل شيء في البلاد أن يستخدم هذا الجيش في أية لحظة من اللحظات ضد الشعب, واعتمد جيش الاحتلال علي نفسه لا علي الجيش المصري في محاولات قمع ثورة1919, وكثيرا ما اندلعت النزاعات بين الوحدات المصرية وضباط الاحتلال, حتي عندما كانت هناك قيادات بريطانية مفروضة علي هذه الوحدات, وللتذكرة أيضا فقد كان حادث4 فبراير الذي أهين فيه ملك مصر, وأجبر بالقوة المسلحة البريطانية علي إعادة حزب الوفد إلي السلطة هو البداية الحقيقية لتنظيم الضباط الأحرار غضبا لكرامة مصر نفسها, وذلك دون قدح في وطنية زعيم الوفد الخالد مصطفي النحاس باشا, ودون الاستطراد في تقويم تاريخي شامل لثورة يوليو التي صنعها الضباط الأحرار, فليس هذا هو سياق حديثنا. مرورا بالنهوض من نكسة1967, وحرب أكتوبر الخالدة, ووصولا إلي ثورة25 يناير, سوف يثبت التاريخ مرة جديدة أن هذا الجيش هو من الشعب وللشعب, وهو من صنع هذا الوطن, وهو في الوقت نفسه حامي الوطن. والدرس الكبير الذي يجب أن نستخلصه وسط ركام الجيوش العربية المحطمة, هو أن نحافظ علي جيشنا قويا متماسكا متحدا مع شعبه, وهذه مسئولية الجيش والشعب معا, فالميزان يتكون دائما من كفتين, وتقتضي هذه المسئولية من الجميع ألا نسمح بظهور فضلا عن تفاقم أي تناقض, ولا نقول صراع لا قدر الله بين المجتمع المدني بكل مكوناته وبين مؤسستنا العسكرية الوطنية, لا سيما وأن تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة مسئولية القيادة السياسية في البلاد أدي وسوف يؤدي إلي اختلافات في الرأي والرؤي, وهذا طبيعي, ويجب أن يبقي في حدوده الطبيعية, لكننا يجب ألا ننسي لحظة واحدة أن هذه مرحلة انتقالية, هدفها تمكين الشعب من اختيار ممثليه وحكومته, وإذا كنا نطالب المجلس العسكري بمعالجة بؤر التوتر بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيين في غير جرائم البلطجة والاغتصاب والسطو وغيرها, وبمواصلة الحوار مع القوي السياسية حول تشريعات المرحلة الانتقالية, فإننا يجب أن نطالب بقية القوي السياسية بوقف التصعيد المحسوب وغير المحسوب ضد المجلس العسكري, وبالكف عن الصراع فيما بينها علي استمالة المجلس لهذا الفريق أو ذاك, خاصة بعد أن تبدد الحديث عن الصفقة إياها عندما قال الفريق سامي عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة ونائب رئيس المجلس الأعلي بوضوح قاطع إن مدنية الدولة قضية أمن قومي. مرة أخري وأخيرة تذكروا أنه لم يبق في العالم العربي جيش متماسك وقوي.. منضبط ومحترف أمام إسرائيل سوي الجيش المصري, وبدونه لا قدر الله تصبح إسرائيل هي السيد الأعلي بلا مراء, وبلا منازع. [email protected] المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد