منذ أن أشرقت شمس الإسلام علي هذا الوجود قبل أربعة عشر قرنا أصبح المسجد الحرام بيت الله العتيق أي الحر الذي لم يخضع لجبار عبر التاريخ أصبح هذا البيت العتيق القبلة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين في الشعائر والعبادات. ومنذ ما يزيد علي ألف عام, أصبح الأزهر الشريف مناره العالم الإسلامي, وقبلة العقل المسلم, التي حافظت علي الشريعة الإسلامية وعلومها, وعلي اللغة العربية وعلومها وآدابها.. أي علي الهوية الحضارية للأمة.. فإلي هذا الأزهر الشريف يحج طلاب العلم من مختلف بقاع ديار الاسلام, علي اختلاف قوميات هذه الديار.. ومنه تتوالي وفود العلماء إلي مختلف الأنحاء, لتبليغ الدعوة.. وإقامة الحجة.. وإزالة الشبهات.. ومع تعدد دور الإفتاء بتعدد أقطار العالم الاسلامي, إلا أن فتاوي الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه قد ظلت هي الكلمة الفصل في عالم أهل السنة والجماعة, الذين يمثلون 90% من أمة الإسلام.. وهكذا جسد الأزهر الشريف, في ميادين العلوم والمعارف الاسلامية, الأمية الانسانية التي أقامها الإسلام. قبل أن تعرف الحضارات الأخري أي لون من ألوان الأمميات. وإلي جانب رعاية الأزهر الشريف لعلوم الحضارة الاسلامية الدينية والدنيوية ونهض بدور رائد في الحفاظ علي هوية الأمة الثقافية والحضارية, ضد مخاطر العجمة.. والتتريك.. والفرنسة.. والجلنزة.. والروسنة.. وقلل تأثيراتها السلبية والضارة إلي حد كبير. وعلي الجبهة الفكرية, جسد الأزهر نهج الإسلام في التعددية والوسطية الجامعة, فاحتضن مذاهب السلف والخلف للحفاظ علي التواصل الحضاري وربي طلابه علي الاستقلال الفكري عندما أتاح لهم حرية اختيار المذهب.. والكتاب.. والتخصص.. والأستاذ.. وهو النهج الذي سبق فيه الأزهر كل جامعات الدنيا. ومع الحفاظ علي الهوية الحضارية للأمة الإسلامية, نهض الأزهر بدور رائد وقائد في الحفاظ علي الاستقلال الوطني لبلاد العالم الاسلامي.. فكان الحارس الأمين للجهاد في مواجهة غزوات الصليبيين.. والتتار... والاستعمار الغربي الحديث والمعاصر.. كذلك نهض الأزهر بدور كبير في محاربة الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والخلل الإداري, إذ كان الموئل والمثابة للجماهير الغاضبة والثائرة والمنتفضة من أجل العدل والحرية والكرامة الإنسانية. ولقد افتتح الأزهر لمصر والشرق العربي والإسلامي أبواب العصر الحديث.. فقاد الثورة الشعبية الكبري التي هزمت الحملة الفرنسية {1213ه 1798م}.. وجعلت ونابرت {197691821م} الذي دوخ أوروبا يفر من مصر بليل.. وذلك عندما تحولت مآذن الأزهر إلي منابر لإعلان الثورة التي قدمت من الشهداء (300.000) من شعب كان تعداده يومئذ أقل من ثلاثة ملايين!.. وأمام هذه الصدمة وإبان هذه الملحمة, دعا الشيخ حسن العطار (11801250ه 17661835م) إلي التجديد, الذي يخرج الأمة من العزلة والجمود.. وقال كلمته المدوية: إن بلادنا لابد أن تتغير, ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها. وكان الشيخ رفاعه رافع الطهطاوي (12161290ه 18011873م] أول عين تشرق علي الغرب, يجدد التواصل والتعارف مع الآخر الحضاري من موقع الراشد, الذي يبحث عن الحكمة, ويستلهم علم التمدن المدني, دون أن يفرط في الهوية الاسلامية أو الاستقلال الوطني.. حتي لقد اعتبره أمير الشعراء أحمد شوقي (12851351ه, 18681972م] أبا للشعب المصري. فقال في مدح ابنه: يابن من ايقظت مصرا معارفه.. أبوك كان لأبناء البلاد أبا وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر, قاد مجلس الشرع بزعامة السيد عمر مكرم (11681237ه, 17551822م) أولي الانتفاضات والثورات الدستورية, التي عزلت الوالي التركي المعين من السلطان.. واختارت محمد علي باشا (11841265ه, 17701849م)/ مؤكدة, بذلك حق الأمة في اختيار حكامها, ومراقبتهم, ومحاسبتهم, وعزلهم عند الاقتضاء.. كما صدرت عن مجلس الشرع هذا أول وثيقة للحقوق في العصر الحديث. كذلك كان الأزهر حاضرا وقائدا في كل ثورات مصر الحديثة. في الثورة العرابية التي شارك في قيادتها الشيوخ عليش (12171299ه,18021882م] والعدوي (1221 1303ه, 18061886م] ومحمد عبده (12661323ه,18491905م) الذين حاكمهم الانجليز, وتعرضوا للسجن والنفي من البلاد. وكذلك كان دور الازهر في ثور 1337ه 1919م التى قادها أحد أبناء الأزهر سعد زغلول (12731346ه,18571927م) والتي خرجت جماهيريا من مسجده الجامع.. وكان الشيخ محمود ابوالعيون (13001371ه, 18821951م) من أبرز خطبائها. وإبان العدوان الثلاثي علي مصر سنة 1956م, كان منبر الأزهر الشريف المكان الذي أعلنت ثورة يوليو من فوقه الجهاد والقتال ضد هذا العدوان. وعلي امتداد عقود هذا التاريخ المجيد, كان الازهر بمحافظيه ومجدديه حصنا منيعا ضد الاحتلال العسكري.. وضد الغزو الفكري الذي تمثل في العلمنة والتغريب فالمحافظون, من علمائه, كان همهم الأكبر حماية المورث.. والمجددون, من أبنائه كان همهم الأكبر بلورة البديل الاسلامي العصري الذي يملأ الفراغ حتي لا يتجدد التخريب فيه. وعندما قامت الي جوار الأزهر مؤسسات حديثة لعلوم الشريعة والعربية مثل دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي تكامل معها الأزهر, وقامت علي جهود علمائه وطلابه.. فكان التعاون والتفاعل الذي جدد علوم حضارة الإسلام. لهذا كانت المرجعبة للأزهر الشريف حقيقة من حقائق هذا التاريخ العريق؟ المزيد من مقالات د. محمد عمارة