المعاهدة التي زرعت بذور ثورة يوليو (1) في نهاية ابريل1936 مات الملك فؤاد عن68 عاما بعد أربعة أشهر عاني فيها المرض وتسع عشرة سنة حكم فيها مصر, وكانت البلاد عند وفاته تستعد لانتخابات جديدة حدد لها يوم2 مايو1936 بعد أربعة أيام من وفاة فؤاد وقد جرت في موعدها وأسفرت, كما كان متوقعا عن فوز حزب الوفد وتشكيل وزارة وفدية برياسة مصطفي النحاس باشا الذي كان يحلم بالتفاوض مع بريطانيا للتوصل إلي معاهدة تحقق لمصر الاستقلال الحقيقي والكامل, وهو الهدف الذي قامت من أجله ثورة19 التي ولد في رحمها حزب الوفد بقيادة سعد زغلول باشا. ورغم أن هذه الثورة التي اشتركت فيها كل فئات الشعب واستمرت شهرا كاملا قد أرغمت الانجليز علي إصدار ما اشتهر باسم تصريح28 فبراير1922 الذي أعلنوا فيه إنهاء الحماية التي فرضوها علي مصر عام1914( عندما قامت الحرب العالمية الأولي) والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة, وإلغاء الأحكام العرفية التي كانوا قد فرضوها علي البلاد, إلا أنهم احتفظوا لأنفسهم بالدفاع عن مصر والسيطرة علي قناة السويس, وحماية المصالح الأجنبية والأقليات في مصر والإشراف علي السودان, ولم يتحقق ذلك نتيجة مفاوضات بين مصر وإنجلترا, وإنما بقرار منفرد من جانب الإنجليز الذين رفضوا حتي هذا الوقت الجلوس مع المصريين علي مائدة المفاوضات, ولذلك كان إجراء هذه المفاوضات هدفا يحلم به مصطفي النحاس, ذلك أنه حسب دروس التاريخ لم تحصل دولة علي استقلالها من أي محتل إلا بعد التفاوض, ولذلك كان غريبا المظاهرات التي كنا نقوم بها في سنوات الاربعينيات ونحن نردد هتاف لا مفاوضات إلا بعد الجلاء والغريب أننا كنا نردده بحماس دون أن نسأل أنفسنا: ماذا إذا حدث فعلا, واستيقظنا يوما علي جلاء الإنجليز من بلادنا بقرار منفرد, فما الذي سيتبقي لنتفاوض معهم عليه؟. برلمان ليوم واحد عاني حزب الوفد كثيرا من كراهية الملك فؤاد وعدائه الشديد له باعتباره حزب الأغلبية الشعبية, لدرجة أنه لم يتحمل صدمة انتخابات1925 التي كان يعتقد حسب التقارير التي قدمت إليه أن الوفد حقق فيها فشلا كبيرا, ثم إذا به يفاجأ في أول جلسة للمجلس لاختيار رئيسه بسقوط عبد الخالق ثروت مرشح الملك واكتساح سعد زغلول بعد أن تبين أن أغلبية المجلس من الوفديين الذين أخفوا وفديتهم وخدعوا أجهزة الأمن برياسة إسماعيل صدقي رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي أدار الانتخابات لإسقاط ممثلي الوفد, ولم يتحمل فؤاد الصدمة, وأعلن في الليلة نفسها مرسوما بحل البرلمان الذي اشتهر باسم برلمان اليوم الواحد وكانت سابقة فريدة في تاريخ مصر كشفت إلي أي مدي وصلت كراهية الملك للوفد, فلما مات فؤاد وجرت الانتخابات فور وفاته دون تأجيل ونودي بفاروق ملكا للبلاد استقبلت مصر تولي فاروق ببهجة كبيرة تحوطها الآمال, وكان من مظاهر هذا الأمل تناسي الأحزاب خلافاتها واتفاقها علي تشكيل لجنة تمثل الأحزاب المختلفة بقيادة حزب الوفد بدأت التفاوض مع الإنجليز للتوصل إلي المعاهدة المنتظرة التي اشتهرت بإسم معاهدة1936 ووقعت في لندن يوم26 أغسطس منذ75 عاما, وقد نجحت المفاوضات لأن الجانب المصري اتفق علي تأجيل النظر في موضوع السودان الذي كانت مصر تعتبره جزءا مكملا لمصر, ورغم ما وجه إلي هذا القرار من انتقادات إلا أنه كان الموقف نفسه الذي كررته مصر بعد ذلك في المفاوضات التي جرت بعد ثورة23 يوليو ورأس وفد مصر جمال عبد الناصر, فقد تقرر فيها فصل موضوع السودان عن قضية الجلاء عن مصر وانتهي السودان إلي ماانتهي إليه. قلم واحد وقع به الجميع المعاهدة وحسب وصف مراسل الأهرام عدد27 أغسطس1936 فقد تم توقيع المعاهدة في قاعة لو كارنو بوزارة الخارجية البريطانية في لندن, وبدأ مستر أنتوني إيدن وزير الخارجية قاد بعد ذلك في عام1956 مؤامرة العدوان الثلاثي علي مصر, وكان رئيسا للوزراء وكانت نهايته فألقي خطابا بالإنجليزية رد عليه مصطفي النحاس بخطاب ألقاه بلغة فرنسية جميلة وجاءت اللحظة التاريخية لإمضاء المعاهدة فجيء بنسختين كلتيهما باللغة الإنجليزية, ولما أعطيت النسخة الأولي لمصطفي النحاس باشا لتوقيعها توقف قليلا فناوله مكرم عبيد باشا من طرف المائدة قلما من الذهب سمي قلم معاهدة1936 وقد أهدته إليه قبل سفره لجنة الشبان الوفديين, وهو القلم الذي إستعمله جميع المندوبين في إمضاء المعاهدة, وقد مرت وثيقة المعاهدة ببطء من مندوب مصري إلي الذي يليه حتي وصلت إلي النقراشي باشا في طرف المائدة ثم انتقلت إلي حمدي سيف النصر باشا فأمضاها ثم نهض وقدمها إلي المستر إيدن وزير الخارجية البريطاني وكان الوزير علي وشك أن يمضيها بقلم عادي, ولكن النحاس باشا قدم إليه قلم المعاهدة الذهبي فوقع به المستر إيدن, كما حذا حذوه جميع المندوبين البريطانيين. استقلال منقوص لم تحقق المعاهدة الآمال المطلوبة لتحقيق جلاء الإنجليز عن كل مصر فقد جاءت بدورها استقلالا منقوصا, إلا أنه اتفق علي قبولها علي إعتبار أنها الممكن في هذه الظروف, فقد كانت تقضي بنقل القواعد والمعسكرات البريطانية التي كانت موجودة في القاهرة والإسكندرية ومدن أخري, وهي قواعد كان جنودها يخرجون إلي الشوارع ويدخلون المطاعم والكازينوهات ويستفزون المصريين, وكان من أشهر هذه المعسكرات في القاهرة ثكنات قصر النيل مكان فندق هيلتون والجامعة العربية بميدان التحرير كان إسمه في ذلك الوقت ميدان الإسماعيلية نسبة إلي الخديوي إسماعيل وقد قضت معاهدة36 بنقل هذه المعسكرات إلي منطقة قناة السويس إلا أن ظروف الحرب العالمية الثانية من1939 إلي1945 أجلت إتمام عملية النقل إلي عامي46 و.47 كذلك كان من نتائج معاهدة1936 نقل حماية الأجانب المقيمين في مصر الذين كان الإنجليز يتولونها إلي السلطات المصرية, وإلغاء المحاكم المختلطة التي كانت مكونة من قضاة أجانب, وكانت تتولي نظر القضايا التي يكون أحد الأجانب طرفا فيها حتي لو كان أجنبيا واحدا ومعه عشرة مصريين مما كان يمثل إهانة بالغة للسيادة المصرية التي لا تملك الحكم علي أي أجنبي سواء في دعوي جنائية أو مدنية... كما ألغت المعاهدة صندوق الدين الذي كان قد تم إنشاؤه لتحصيل أقساط سداد ديون مصر منذ عهد الخديوي إسماعيل. إلا أن أهم ما قضت به المعاهدة العمل علي تقوية الجيش المصري, وزيادة عدد ضباطه حتي يتمكنوا من حماية الأجانب, وتولي الدفاع عن مصر بدلا من الإنجليز حتي يمكن الانتقال إلي المرحلة التالية لإلغاء المعاهدة, وتحقيق استقلال مصر كاملا مما كانت نتيجته زرع بذور قيام ثورة23 يوليو.52 ge.gro.marha@tnomhalas