حديث القرآن الكريم عن النبي صلي الله عليه وسلم حديث متعدد الجوانب متنوع المقاصد, فيه الأمر والنهي, وفيه التسلية والتكريم, وفيه التوجيه والارشاد, فيه كل معاني الخير والفضل والهداية. ونريد هنا أن نتناول جانبا خاصا بالسؤال والجواب, فإن القارئ للقرآن الكريم يري ما يقرب من عشرين آية افتتحت بقوله تعالي يسألونك و يسألك. وكان السائلون تارة من المسلمين, وتارة من غيرهم, فكان ينزل الجواب بقوله تعالي قل. ومن هذه الآيات التي افتتحت بقوله تعالي يسألونك قوله سبحانه يسألونك عن الأهلة, قل هي مواقيت للناس والحج, وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقي, وأتوا البيوت من أبوابها, واتقوا الله لعلكم تفلحون[ سورة البقرة: الآية189]. والمواقيت: جمع ميقات بمعني الوقت, وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل: الميقات منتهي الوقت. والمعني: يسألك أيها الرسول الكريم بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة, قل لهم يا محمد إن الله تعالي قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم, وزكاتهم, وحجهم, وعدة نسائهم, ومدد حملهن, ومدة الرضاع, وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم. قال تعالي :( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب, ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)[ سوف يونس: الآية5]. وخص الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخري كالصوم والزكاة للتنبيه علي أن الحج مقصور وقت أدائه علي الزمن الذي عينه الله تعالي وأنه لا يجوز نقله إلي وقت آخر كما كانت العرب تفعل, إذ كانوا ينقلون ما شاءوا من الأشهر الحرام الأربعة التي من جملتها ذو الحجة إلي شهر آخر غير حرام, وهو النسيء المشار اليه بقوله تعالي: ( إنما النسيء زيادة في الكفر). هذا, ومن الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يارسول الله. مابال الهلال يبدو أو يطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتي يعظم ويستدير, ثم لايزال ينقص ويدق حتي يعود كما كان, لماذا لا يكون علي حال واحد؟ فنزلت. وعلي هذه الرواية يكون الجواب بقوله تعالي :( قل هي مواقيت للناس والحج) من قبيل أسلوب الحكيم, وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤال, بتنزيل سؤاله, منزلة غيره, تنبيها له علي أن ذلك الغير هو الأولي بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له. فأنت تري هنا أن السائلين قد سألوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان, فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها, فكأنه سبحانه يقول لهم: عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه, لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره, لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة, وأنتم لستم في حاجة إلي معرفة ذلك في هذا الوقت. وقوله تعالي :( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقي وأتوا البيوت من أبوابها) هذا القول الكريم نهي لجماعة المسلمين عن عادة كانوا يفعلونها في الجاهلية, وهي أنهم كانوا اذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم, بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم. أخرج البخاري عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا, كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من جهة أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار فدخل من جهة بابه فكأنه غير بذلك فنزلت:( وليس البر) الخ.. والمعني: وليس من البر ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم, ولكن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوي الله بأن تمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه, وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم. وفي الأمر بإتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إتيانها من ظهورها باسم الدين غير مأذون فيه, وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة, وكل بدعة ضلالة. وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلي الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة, ولا تتوقف معرفته علي الوحي, فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه. قال بعضهم: وذلك لأن العلم علي ضربين: علم دنيوي يتعلق بأمر المعاش كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن والنبات, وقد جعل الله لنا سبيلا إلي معرفة ذلك علي غير لسان نبيه صلي الله عليه وسلم وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلي أخذه إلا من الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم. فلما جاءوا يسألون النبي صلي الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم, ثم بين لهم أن البر في التقوي وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين. وقوله تعالي: ( واتقوا الله لعلكم تفلحون) أمر بالتقوي التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات. أي: افعلوا ما أمركم الله به, واجتنبوا ما نهاكم عنه, لتكونوا من المفلحين. وبذلك تكون الآية الكريمة قد ردت عقول الناس إلي النظر والتأمل في سنن الله وفي خلقه علي النحو الذي ينشئ التقوي في النفوس, ويوجه إلي العمل الصالح الذي يرضي الله تعالي المزيد من مقالات د. محمد سيد طنطاوي