غزا بصوته الخاشع القلوب والوجدان, جمع بين الخشوع وقوة التأثير فكان أسلوبا فريدا في التلاوة, إنه أعظم صوت قرأ آيات الذكر الحكيم في القرن العشرين ألا وهو الشيخ محمد رفعت. ولد الشيخ محمد رفعت( واسمه مركب) في حي المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة في9 مايو1882 ميلادية, وكان والده محمود رفعت ضابطا في البوليس وترقي من درجة جندي حتي وصل إلي رتبة ضابط وانتقل إلي السكن في منزل آخر في درب الأغوات بشارع محمد علي وكان ابنه محمد رفعت مبصرا حتي سن سنتين إلا أنه أصيب بمرض كف فيه بصره, حيث قابلته امرأة وقالت عن الطفل إنه ابن ملوك عيناه تقولان ذلك, وفي اليوم التالي استيقظ الابن وهو يصرخ من شدة الألم في عينيه ولم يلبث أن فقد بصره. لم يكتف الشيخ رفعت بموهبته الصوتية الفذة ومشاعره المرهقة في قراءة القرآن بل عمق هذا بدراسة علم القراءات والتفاسير واهتم بشراء الكتب ودراسة الموسيقي الرقيقة والمقامات الموسيقية مثل بتهوفن وموزارت وفاجنر وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية في مكتبه. وامتاز رفعت بأنه كان عفيف النفس زاهدا في الحياة, وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة القرآن فلم يكن طامعا في المال لاهثا خلفه, وإنما كان ذا مبدأ ونفس كريمة فكانت مقولته إن خادم القرآن لا يمكن أبدا أن يهان أو يدان ضابطا لمسار حياته فقد عرضت عليه محطات الإذاعة الأهلية أن تذيع له بعض تلاواته لآيات الذكر الحكيم فرفض قائلا: إن وقار القرآن لا يتماشي مع الأغاني الخليعة التي تذيعها إذاعتكم. وعندما افتتحت الإذاعة المصرية في31 مايو1934 ميلادية كان الشيخ رفعت أول من افتتحها بصوته العذب وقرأ: إنا فتحنا لك فتحا مبينا وقد استفتت قبلها الأزهر وهيئة كبار العلماء عما إذا كانت إذاعة القرآن حلالا أم حراما؟ فجاءت فتواهم بأنها حلال حلال, وكان يخشي أن يستمع الناس إلي القرآن وهم في الحانات والملاهي. وجاء صوت الشيخ رفعت من الإذاعة المصرية نديا خاشعا وكأنه يروي آذانا وقلوبا عطشي تسمع آيات القرآن وكأنها تقرأ لأول مرة, فلمع اسم الشيخ وعشقت الملايين صوته, بل أسلم البعض عندما سمع هذا الصوت الجميل, ففي ذات يوم التقي علي خليل شيخ الإذاعيين وكان بصحبته ضابط طيار انجليزي بالشيخ رفعت فأخبره علي خليل أن هذا الضابط سمع صوته في كندا فجاء إلي القاهرة ليري الشيخ رفعت ثم أسلم هذا الضابط بعد ذلك. كما أن إذاعات العالم الكبري تنافست بعد ذلك لتستهل برامجها العربية بصوت الشيخ رفعت لتكسب الكثير من المستمعين إلا أنه لم يكن يعبأ بالمال والثراء وأبي أن يتكسب بالقرآن فقد عرض عليه سنة1935 أن يذهب إلي الهند مقابل15 ألف جنيه فاعتذر فوسط نظام حيدر آباد الخارجية المصرية وضاعفوا المبلغ إلي45 ألف جنيه فأصر الشيخ علي اعتذاره وصاح فيهم غاضبا: أنا لا أبحث عن المال أبدا فإن الدنيا كلها عرض زائل. وقد عرض الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يسجل له القرآن الكريم كاملا مقابل أي أجر يطلبه فاعتذر خوفا من أن يمس اسطوانة القرآن سكران أو جنب. وتوفي الشيخ رفعت في يوم الاثنين9 مايو1950, وهو نفس التاريخ الذي ولد فيه حيث قضي68 عاما في رحاب القرآن الكريم. ويقول عنه الأستاذ أنيس منصور: ولا يزال الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها وسر جمال وجلال صوت رفعت أنه فريد في معدنه قادر علي أن يرفعك إلي مستوي الآيات ومعانيها ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر. ويصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة. وقال عنه الأستاذ محمود السعدني رحمه الله في كتابه ألحان السماء: الشيخ رفعت كان صوته مملوءا تصديقا وإيمانا. أما الأستاذ محمود خليل شيخ الإذاعيين فيقول عنه إنه كان هادئ النفس, تحس وأنت جالس معه أن الرجل يستمتع بحياته وكأنه في جنة الخلد حيث كان كيانا ملائكيا تري في وجهه الصفا والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق وكأنه ليس من أهل الأرض. وقد نعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلي المستمعين بقولها أيها المسلمون, فقدنا اليوم علما من أعلام الإسلام. أما الإذاعة السورية فجاء النعي علي لسان المفتي حيث قال لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام. وإن كان الشيخ رفعت قد رحل من دنيانا بجسده إلا أن روحه وتراثه من التلاوات لا يزال باقيا مستمرا في قلوب وآذان محبيه, كما أنه تخرج من مدرسة التلاة للشيخ رفعت قراء وأعلام للتلاوة ملأوا الدنيا نورا وهدي وعلما, منهم من التزم نهجه ومنهم من زاد عليه, وسنذكر عنهم نبذة في الحلقات القادمة.