تقف مصر علي مشارف منعطف تاريخي يستلزم من جميع أبنائها التحلي بالوعي, والشجاعة, ونفاذ البصيرة, التي تجعل من ميلاد الجمهورية الثانية أمرا ليس بعيد المنال, وذلك من خلال صياغة دستور دولة مدنية ديمقراطية عصرية, السلطة فيه لشعب يمتلك حرية تمكن مواطنيه دائما من تقرير مصيرهم بأنفسهم. لكن سحابات غبار تملأ فضاء المشهد السياسي, تجعل هذا الميلاد الذي سيضع مصر في مكانة تستحقها صعب المخاض. والذي إن حدث سيؤثر بقوة إيجابية علي مستقبل الشعوب العربية والأفريقية, بل والشرق الأوسط بأجمعه, بما فيه تفكيك الدولة العنصرية الصهيونية. دستور الدولة الحديثة هو عقد اجتماعي توقعه أمة من الأحرار, وتلك أهم الإشكاليات التي تواجه المستقبل, فقطاع كبير من المصريين لا يزال ينتمي بثقافته إلي الريف, وللفلاحين تاريخ طويل وعميق مع الاستبداد والاستعباد, وإذا كان يمكن للقارئ الحصيف أن يعرف كيف كرس دستور 1971 للدولة الاستبداية, فمن النادر أن نجد أحدا يعلم شيئا عن الدستور الذي وضعه الرومان لمصر, والذي كرس نوعا من العبودية لم يسبق أن أشار إليها التاريخ. أحتلت مصر قبل ميلاد السيد المسيح بثلاثين عاما. وأخضعت روما جميع شعوب البحر المتوسط, وكان هذا إيذانا بإعلان الإمبراطورية, سبقته سبعة قرون كان الجيش الروماني خلالها في حالة حرب متواصلة, لا يبحث مع خصومه إلا سلام القبور, وأينما سار كان خلفه جيش آخر من تجار الرقيق, والنخاسين, حيث كان يباع مئات الآلاف من أسري الشعوب المهزومة لحساب الإمبراطورية. فكان هذا ذروة العصر العبودي. وفي مصر أعلن الإمبراطور أكتافيوس مصر ملكية خاصة به, ونزع عن الفلاحين مفهوم الشخص القانوني, فأصبحوا بمقتضاه ملكا له, باعتبارهم منقولات, وإرثا خاصا يتداوله الأباطرة. وإحكاما لسيطرته عليها واستنزافها حتي آخر قطرة دم, أصدر دستورا لإدارتها سمي بوثيقة الجنومون تضمنت 115 بندا, لم تغفل أي مورد يمكن الاستيلاء عليه, وحددت مهام الإدارة الرومانية بتشريعات تناولت شتي مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية, بل وأخص شئون المصريين كالمعاشرة الجنسية والإرث والتركات. وعمل ذاك الدستور علي تأكيد تمييز وفصل عرقي حط من شأن الفلاح المصري, وصنفه خارج السلم الاجتماعي, ونزل به إلي المرتبة الرابعة في التدرج العرقي, فأصبح أدني من العبد المعتوق. ونص الدستور صراحة علي تحريم الزواج بين المواطنين والمواطنات الأحرار من الرومان واليونانيين أو حتي المعتوقين من العبيد, وبين المصريين. واعتبره علاقة غير شرعية, أبناؤه زنا وسفاح, ووضعت عقوبات رادعة لهذه المعاشرة, فأسقط حق المواطنة, وصودرت الثروات والتركات. ونص قانون الفتح الروماني علي أن يسلم المهزوم للمنتصر كلا من: ذاته, وما ملكت يمينه من نساء, وأولاد, وأنعام, وعبيد, وكل الممتلكات العينية الفردية, والجماعية, من وطن, وأرض, وأودية, ومراع, وأنهار, وينابيع مياه, فضلا عن آلهته وآلهة الجدود ومعابده الدينية. أما قانون الملكية الروماني فلم يتح حق الملكية لغير المواطن الروماني, فأصبح الفلاحون المصريون عمالا زراعيين, ليس لبعضهم سوي حق انتفاع, وأصبحت الأراضي التي زرعوها لآلاف السنين, وأقاموا فوقها قراهم, ومدنهم, ومقابرهم, ومعابدهم, وأهرامهم التي تحدت التاريخ, ملكا لرجل غامض يجلس علي عرش بلاد تقع بعيدا خلف البحار. مارست الإمبراطورية سياسات تمييز عرقية تفوق ما فعله النازي تجاه اليهود, وأسس الدستور الروماني الذي حكمت به مصر أخطر الجرائم التاريخية, فحط منزلة المصريين من صناع حضارة إلي أمة عبيد, وجعل وضعهم القانوني لا يتجاوز الشيء المنقول, ونزع عنهم دثار الشريعة. والمدهش أنهم حكموا مصر سبعة قرون كاملة, كانت كافية لتأسيس أوضاع إدارية وقانونية لازمت الفلاح المصري قرونا طويلة, ومن الضروري هنا الإشارة إلي أن تأثير هذا الدستور علي الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفلاح المصري, جاوز الخراب المادي بكثير, فانعدام الملكية الزراعية أدي إلي كبح النمو الطبيعي للقوي الاجتماعية الاقطاعية المصرية, ومصادرة قوانين التطور الاجتماعي, فكانت الكارثة التي حلت بالجماعة المصرية, وهي مصادرة التاريخ المصري نفسه. في المقابل جري ترسيخ نوع غامض من العبودية الجماعية لم يشر إليه من قبل, يختلف تأثيره عن الرق الفردي, ففي حين تنتهي أثار الرق الفردي بموت العبد أو عتقه, تترسخ عبودية جماعية وتتراكم طبقاتها في وعي الأفراد, وتتحول بفعل الديمومة إلي سلوكيات راسخة في الوجدان العام, يستعاض فيها عن الألم والاغتراب الفردي للعبد, بحالة استلاب كلية. بعد سبعة قرون بلغت دلالات المشهد ذروته, عندما حدد المقوقس والي مصر, طبيعة العلاقة بين الفلاحين وجيش الفتح العربي, فيما قاله للأعيان وبطاركة الكنيسة المصرية, كما جاء في كتاب تاريخ الأمة القبطية ليعقوب نخلة: أنتم لا طاقة لكم بهم, يتركون لكم شئونكم وتصيرون لهم عبيدا. هذا عقد سيحدد العلاقة بين الفلاح المصري والجالس علي سدة الحكم, أينما كان. هل تبدو الحقيقة ضربا من الخيال؟ لا فبعد ستة قرون من الفتح العربي حكم مصر المماليك ستة قرون كاملة, وهم أيضا عبيد معتوقين, وبعد قرنين خطط الرئيس المخلوع وولي عهده جمال مبارك لأسر الشعب المصري في نوع ثالث من العبودية وهو الجمهورية الوراثية, لكن بفضل ثورة 25 يناير فشل مخططهم. يحكي التاريخ عن حالات لعبيد أعتقهم أسيادهم, باعوا أنفسهم ثانية لأسياد جدد, مقابل حفنة مال, فلماذا فعلوا؟ ربما لأن للحرية طعم لاذع, ربما لأن الحرية مسئولية, والعبودية انتفاء لها. طوق العبودية قديم صدئ لم يعد له مكان حول أعناق المصريين, حطمناه كثيرا, وليت الفلاح المصري يعلم أن أبناءه الشباب خرجوا في 25 يناير كي يفتدوه بدمائهم, ضد تراث العبودية, ليدشنوا عصرا جديدا من الحرية. أما الدرس الذي ينبغي استيعابه, فهو التيقن أن مصر المستقبل لن تولد إلا من رحم الأمة جميعها وبشجاعة أبنائها, خاصة المعذبين في الأرض. المزيد من مقالات فتحى امبابى