لا خوف علي مصر, هكذا تقول كتب التاريخ التي ترصد الحملات الضارية والمستمرة دون انقطاع او توقف, والقصة لم تبدأ بالأمس القريب ولكنها المحاولات المستميتة للنفاذ والاختراق بلا جدوي, والسبب معروف للقاصي والداني, ان في مصر مناعة ذاتية وكراهية متوارثة لأي تدخلات او محاولات استقواء بالخارج, والمواطن البسيط لا يقبل في جوفه سوي لقمة عيش شريفة وديمقراطية خالصة لوجه الوطن. عندما دخلت قوات الغزو العراق نتيجة اخطاء وخطايا صدام حسين, وكشفت التطورات اللاحقة عن المآسي والكوارث التي تعرض لها البلد الشقيق وهو بالمناسبة يمتلك الثروات الهائلة التي تجعله واحدا من اغني الدول واكثرها ثراء. وتابعنا كيف تحول النموذج الذي يحتذي حسب مقولة بوش إلي ساحة مفتوحة للفوضي والانقسام, والاقتتال بين ابنائه علي خلفيات الفتنة الطائفية والعرقية, وهروب الملايين إلي مناطق اخري وإلي خارج البلاد لتتكرر مأساة الشعب الفلسطيني بصورة أخري قد تفوق في العدد ما حدث في نكبة عام1948. تلك المشاهد أدت بنا في ذلك الوقت إلي القول صراحة, لا نريد خبزا وديمقراطية إذا كانت علي هذا النحو, وقلنا ايضا ان الشعب المصري آمن علي نفسه ووطنه لوجود القيادة الحكيمة الواعية التي استطاعت التعامل مع الاخطار القائمة والمخططات الهادفة إلي إقامة الشرق الأوسط الكبير وفق ارادة بوش التي استخدمت كل وسائل الضغوط المتاحة من سياسية واقتصادية ومن الترهيب إلي الترغيب حتي تتخلي مصر عن قرارها الوطني ومسئولياءتها القومية ليسهل اختراق بقية العالم العربي بعد سقوط بغداد. ولكن مصر أبت واستعصت بل واستطاعت ان تجمع اشقاءها وان تعلن للعالم فساد الوصفات الجاهزة واخطارها المحدقة علي حاضر ومستقبل الشعوب التي تأخذ بها. وبصراحة تتيحها مساحات الحرية التي تتمتع بها عشرات الصحف ومئات البرامج والفضائيات التي تلاحق المواطن البسيط ليل نهار, بتلك الصراحة نقول إن الرئيس مبارك كان يستطيع بتفويض من الشعب وبخبرته التي تثق فيها الجماهير ان يغلق الأبواب والنوافذ حماية للوطن من الرياح العاتية القادمة عبر الحدود, وان يعيد البلاد إلي عصر الحزب الواحد والرأي الواحد حماية للجبهة الداخلية وللأمن القومي, وحتي لا يتسرب التلوث الذي امتلأت به اجواء المنطقة وتحسبا من الأدخنة السوداء التي علت سماءها نتيجة تصاعد العنف والفوضي. ولكن مبارك وليس غيره رفض ذلك كله, واراد لمصر ان تمضي في مسيرة الاصلاح الشامل وعلي جميع المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مبارك وليس غيره كان الواثق من قدرة الشعب المصري علي استكمال تجربته الوطنية في الممارسة الديمقراطية من خلال اتاحة المجال دون رقيب او حسيب امام التعددية الحزبية والانتخابات المباشرة التي خضعت لها ولأول مرة في التاريخ الانتخابات الرئاسية. مبارك وليس غيره هو الذي اعطي مساحات حرية التعبير التي تتجاوز في الكثير من الأحيان ما هو مطبق في اكثر البلدان الديمقراطية, ولم يغضب ولم يتراجع بل يؤكد دوما ثقته في سلامة بنيان التجربة الديمقراطية. وعندما استيقظ العالم من غيبوبة بوش وعاد إلي رشدة ادرك الجميع صواب الرفض المصري لمخططات الفوضي الهدامة التي حصدت ارواح الابرياء واهدرت ثروات الشعوب وادخلت مجتمعات بكاملها إلي انفاق مظلمة لاتزال تتخبط بداخلها إلي يومنا هذا. جاء القادة والزعماء إلي مصر طلبا للنصيحة وللعفو والمغفرة من الشعوب, وكان في مقدمتهم الرئيس الامريكي الجديد اوباما الذي عبر في خطابه التاريخي من القاهرة عن رغبته في فتح صفحة جديدة مع الامتين العربية والاسلامية. ولايسع المجال لشرح ما يقوله هؤلاء القادة والزعماء عن حكمة وحنكة زعيم مصر الذي نجح بالوصول بسفينة الوطن إلي برالامان والسلامة. وتبلغ الاحقاد ذروتها وهي تري مصر وقد اقتربت من حصاد التجربة الديمقراطية النابعة من ارادتها الوطنية. ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية يشتد التنافس علي استقطاب الناخبين وهو حق مشروع للجميع. وترتفع في الوقت ذاته احلام البسطاء الذين كان لهم النصيب الأكبر في برنامج الرئيس مبارك الانتخابي والذي تحول إلي تكليف مباشر للحكومة تعمل علي تنفيذه وفق بنوده ومواعيده الزمنية حتي يحصل كل مواطن علي نصيبه من ثمار التنمية. وهنا لابد من الاشارة إلي الانجازات التي تحققت وهي حقيقية تشهد بها الارقام والوقائع علي أرض الواقع وان كانت لم تحظ بالتسويق الاعلامي القادر علي توضيح حجم تلك الانجازات ومدي تأثيرها في حياة المواطن, وحتي لاننساق إلي الاتهام دون دليل لغالبية الأقلام والفضائيات التي تركز علي المشاكل والازمات وتتناسي خطوات واسعة تمت, فإننا نعود إلي القبول بضريبة الديمقراطية التي طوت وإلي الأبد حقبة كانت المنظومة الإعلامية تردد ليل نهار منظومة واحدة لا تتغير. نفهم وندرك ونقبل التنوع الاعلامي في المعالجة والرؤية وان كنا نلاحظ ان لاصوات المعارضة العدد الأكبر من الصحف والبرامج التي تملأ الدنيا صخبا وصياحا. ولكن المواطن البسيط صاحب الكلمة العليا امام صناديق الاقتراع, والقادر علي حسم المعركة بات يشعر بنوع من الصداع وقدر من الاحباط والاكتئاب والاسباب لا تتعلق بمعطيات المشهد الذي يعيشه لانه علي قدر كبير من الوعي يجعله واثقا من ان الطريق لايزال ممتدا وان امامه الكثير من التحديات والعقبات قبل تحقيق كل الاهداف المنشودة, المواطن البسيط والبصير بأحوال الوطن يدرك ان مصر تحتاج إلي العرق والانتاج وليس إلي الكلمات والشعارات, وان بناء الاوطان يكون بالعمل اولا وثانيا وثالثا, وبعدها يكون التنافس علي المقاعد والمناصب. والمعطيات الراهنة تخرج عن هذا الإطار حيث نري البعض يعمد إلي التسخين واستعراض عضلات حنجرته الصوتية دفاعا عن البسطاء, ولم يكن واحدا منهم في يوم من الأيام. ونري آخرين وقد اعتادوا القفز فوق الجميع باستخدام اوراق وملفات من شأنها جذب الانتباه ليس اكثر ولا أقل. نماذج متعددة يسهل التعرف عليها هذه الأيام مع قرب الاستحقاقات الانتخابية, وتحاول ان تربط بين قضايا الممارسة الديمقراطية وهموم لقمة العيش بحثا عن تأييد جماهيري, ودعما لمسيرة انتخابية. ولا ننسي بطبيعة الحال تلك القوي الباحثة والساعية إلي وضع اليد علي الشارع المصري انطلاقا من رؤيتها الدائمة والقائمة علي تصيد الاخطاء والاكتفاء بدور الواعظ الأمين. وبين هذا وذاك تقف شريحة معروفة من الوسطاء الذين يجدون في تلك الاجواء النشطة فرصة لاظهار مواهبهم وطرح انفسهم ولو علي قائمة الانتظار. ولكن ذلك الصخب والغبار المتصاعد لا يغيب علامات الطريق التي ارتضاها الشعب المصري, علامات تنتصر للشرعية والمنافسة الصادقة بين الاحزاب صاحبة الحق في الممارسة الديمقراطية, ولعلنا نسجل ان تلك الاحزاب قد ادركت مسئولياتها وتعمل علي التلاحم مع الجماهير استعادة لدورها ورسالتها ولقطع الطريق امام القوي الساعية إلي اغتصاب شرعيتها والتحايل علي القانون. صحوة الأحزاب وحدها هي الكفيلة بتحويل مظاهر السخونة الراهنة إلي حيوية ايجابية ومطلوبة في الشارع المصري. وهذه الصحوة والعودة إلي الجماهير تنسجم تماما مع نضج التجربة المصرية التي لم يقل أحد بانها قد بلغت كل اهدافها وان كان من الصحيح تمام التأكيد علي انها تمضي بثقة واقتدار نحو المستقبل الذي تستحقه. وساعتها لن يكون هناك مكان للوسطاء الباحثين عن ادوار وهمية. muradezzelarab@hotmailcom