الشعب يريد العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.. الشعب يريد إسقاط النظام.. بهذه الصرخات تفجرت ثورة تراكمات الغضب في الخامس والعشرين من شهر يناير. تلك الثورة التي توحدت معها الجماعة المصرية بكل طوائفها وأطيافها وساندها جيش باسل عظيم. بالثورة أعاد الانسان المصري اكتشاف ذاته التي كادت تشوه أو تطمس عبر أكثر من نصف قرن منذ خمسينيات القرن الماضي حيث انتهكت, وفي الغالب الأعم غابت حقوق أصيلة لقاعدة عريضة من المصريين في العدل الاجتماعي والحرية والديمقراطية وتنكرت لهم سياسات تم احتكارها لمصلحة قلة عاثت في الأرض فسادا وإفسادا.. وساد القهر وفرغت قيم الحرية والديمقراطية من مضامينها, واحتكرت السلطة من خلال أنظمة سلطوية توارثت الدولة والمجتمع من منطق الإقطاعية أو الملكية الخاصة حكما, ومن منظور أقرب إلي الفاشية اختصرت فيه أمة بكاملها بكل تاريخها العظيم ومقوماتها الأصيلة ومؤسساتها في شخص الحاكم الفرد الذي تمركز حول نفسه وجعل منها الأقدر علي تقرير مصالح البلاد والعباد.. أنظمة, هذا حالها, أفقدت الأمل وشوهت المفاهيم الحقيقية لقيم مثل العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والحقوق الإنسانية والديمقراطية, وأفرزت قيما جديدة علي مقاسها وبالقدر, وفي الإطار والمستوي, الذي يكفل لها الاستمرار بل وامكانية التوريث.ووقعت الواقعة.. فكانت الثورة معبرة عن إرادة الشعب في اقتلاع الماضي من جذوره وإطلاق الجهود الوطنية لتأسيس بنيان جديد غير قابل للتآكل ومحصن ضد الاحتكار أو إمكانية ميراثه او توريثه.. بعيدا عن مجرد استبدال الأشخاص او تغيير المواقع أو الاكتفاء برتوش تجميلية أو ترقيعات لامتصاص حالة الثورة والغضب المتراكم.. يؤدي الي ميلاد جديد لدولة ديمقراطية مدنية حديثة. والبنيان المستهدف للدولة يتعين بالضرورة ان يتأسس علي قاعدة ذهبية نراها شرطا للوجود وسندا للمشروعية ولزوما للاستمرارية ومنطلقا للنهضة والتقدم.. تلك القاعدة هي العدل الاجتماعي وتتفرع عنها وتولد من رحمها الركائز الأساسية الأخري للدولة متمثلة في الحرية والديمقراطية والبناء التشريعي المدني. كما يتحقق للدولة الحداثة بمعني مواكبة مقتضيات وتداعيات ثورة تكنولوجية كاسحة في المعلومات والعلوم والاتصالات, متي كان التعليم والبحث العلمي المشروع القومي الأول لها يتعذر بدونه اللحاق بتلك الثورة ومواكبة متغيراتها. العدالة الاجتماعية هي منظومة متاملة من السياسات والخدمات لاتختلف مكوناتها الأساسية في الانظمة الشمولية عنها في الانظمة الرأسمالية او المختلطة. كما أن هذه الانظمة تتفق, مع قدر من التفاوت, علي أن مسئولية تحقيق العدل الاجتماعي تمثل لديها أساس مشروعية الحكم وأولويات أهدافه. لكنها تختلف اختلافا نسبيا من حيث مفاهيم العدل الاجتماعي واساليب توفيره. ولعل من ابرز عناصر العدالة الاجتماعية المتفق عليها تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين المواطنين, والتشغيل والأجور والمعاشات, وما يرتبط بذلك من توزيع عادل ومتوازن لمردود التنمية من دخول, وتوفير الخدمات الأساسية ومحاربة الفساد. وعلي الرغم من أن الاهتمام بكل جوانب العدل الاجتماعي والعناية بتحسين أحوال الفقراء ومحدودي الدخل, وهي شريحة تمثل حوالي 70% من المجتمع المصري, قد سيطرت دوما علي الخطاب الإعلامي والسياسي لعهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك, فإن سياسة الدولة كانت في الغالب الأعم تسير عكس ما يبشر به خطابها. فهل من العدل الاجتماعي ظاهرة تفشي البطالة بين شباب الأمة؟ وهل من منطق العدالة وحسن استخدام الموارد أن تسهم مخرجات التعليم في تفاقم معدل البطالة وتدهور الإنتاج؟ وهل نري شيئا من العدل في الخلل الواضح في هيكل الأجور والمعاشات واتساع الفجوة بين حدودها الدنيا وسقفها الأعلي, من ناحية, وبينها وبين مستويات الأسعار وتكاليف الحد الأدني لمستوي كريم للحياة, من ناحية أخري؟ وهل ينسجم ذلك مع التفاوت الفج في الدخول واحتكار القلة للاستفادة من عوائد التنمية؟ وهل في مثل هذا المناخ يمكن الحديث عن تكافؤ الفرص الذي داسته أقدام المفسدين؟ وهل مع الفساد ونهب المال العام أو إهداره تبقي فرصة حقيقية لتوفير أو تحسين الخدمات الأساسية للمواطنين في مجالات حيوية مثل الأمن والتعليم والصحة والإسكان والتشغيل والأجور والمعاشات والمواصلات والطرق والمرور وغيرها؟ لقد سبق لنا تعريف العدالة الاجتماعية بأنها منظومة متكاملة ومترابطة من السياسات والخدمات تشكل العمود الفقري للحرية والديمقراطية وبدونها تصاب الحرية بشلل وتكون الديمقراطية شكلية عرجاء مفرغة من مضمونها.. لقد سرقت كل هذه القيم, بدرجات وصور مختلفة, علي مدي أكثر من نصف قرن, مع تفاوت حدتها وأشكالها بين العهود الثلاثة السابقة في حكم مصر.. المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى