مع حلول الذِّكرى التاسعة والخمسين لقيام ثورة الثالث والعشرين من شهر يوليو 1952، وفيما تخُوض مصر غِمار ثورة الخامس والعشرين من يناير بكل التحديّات التي تواجه البلاد بعد ستِّين عاما من حُكم الجيش وثلاثين عاما من فساد السُّلطة وزواجها بالمال وسيْطرة رأس المال على الحُكم.. .. نظَّم مركز الحوار العربي في واشنطن نَدوة للمقارنة بين الثورتيْن وتحديد نِقاط التَّشابُه والاختلاف، وكيف يُمكن تحقيق التكامل بينهما، بحيث يتم الإستِفادة من تجارب الماضي في صناعة المستقبل. بدأت الندوة بتحليل أكاديمي صادِم، حيث أكَّد الدكتور سامر شحاتة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون أن ثورة 23 يوليو 1952 كانت انقِلابا عسكريا تحوَّل بمساندة وتأييد الشعب، ومن خلال إدخال تغييرات جِذرية عميقة في المجتمع المصري والمُحيط الإقليمي إلى ثورة، بينما أعْرب عن اعتقادِه بأن ما حدث في مصر في 25 يناير، كان انتِفاضة شعبية، شارك فيها ما يتراوح بين 12 إلى 20 مليون مصري للإحتجاج على مظالِم طال أمَدُها ومع نبْل أهداف الحركة الإحتجاجية الشعبية وما أحدثته من ردود أفعال عالمية تستحق الإعجاب والتقدير، فإنها لم تصِل بالتغيير إلى ما يُمكن، من الناحية الأكاديمية، تعريفه بالثورة. وقال الدكتور سامر شحاتة: "مع إعجابنا الشديد بالزِّلزال المُبهر الذي تمكَّن الشعب المصري من إحداثه بكسْر حاجِز الخوْف والخروج إلى شوارع ومدن مصر بالملايين، حتى تمكَّن من إسقاط رأس النظام والتخلُّص من الأسْرة الحاكمة وإنهاء مشروع توريث السلطة ورموز النظام ومجموعة المُستفيدين من زواج المال والسلطة، والذين حلّ معظمهم ضيوفا على سِجن طُرّة، فإن غَضبة الشعب المصري يُمكن أن تتحوّل إلى ثورة حقيقية بالتعريف العِلمي لها، إذا تمكَّنت من إنجاز تحوُّلٍ هيْكلي في النظام السياسي المصري وهيكل السلطة السياسية وإحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية أساسية." وخلص الدكتور سامر شحاتة، إلى أن هناك تحدِّيات أساسية يجِب مواجهتها، حتى يمكن أن تتحوّل حركة الرّفض والغضب الشعبي، إلى ثورة حقيقية، مثل تحديد معالِم وأسُس الدستور الجديد والتمكُّن من إجراء انتخابات حرّة ونزيهة وتفكيك هياكل نظام الحُكم الذي تمَّ إسقاطه، والخروج بالاقتصاد المصري من أزمته وإنهاء الفساد والاحتكار وإعادة توزيع الدَّخل القومي، بما يضمَن العدالة الاجتماعية وإنهاء التبَعية للخارج وضمان التحوّل الحقيقي نحو الديمقراطية، بعيدا عن حُكم العسكر أو سلطَوِية توجُّه أيديولوجي يحُول دون التعدُّدية. المُهِم.. وِحدة الهدف ثم تحدّث في ندوة مركز الحوار الدكتور كلوفيس مقصود، السفير السابق لجامعة الدول العربية في واشنطن ومدير مركز دراسات عالم الجنوب، فقال إنه كان من أوائل مَن عرفوا ما حدث في مصر في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، بأنه انقلاب عسكري ورَوى كيْف أنه عندما عبَّر عن تلك القناعة في أول كتاب له بعنوان "نحو اشتراكية عربية"، استدعاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى منزله في عام 1957 وأصرَّ طِوال نقاش دام تسعين دقيقة، على أن ما قاده في مصر كان، ومِن اليوم الأول، ثورة بكل معاني الكلمة. وأخفق الدكتور مقصود في إقناع عبد الناصر بأنها كانت انقِلابا عسكريا تحوّل إلى ثورة من خلال التغييرات الجوهرية العميقة، التي تمَّ إنجازها في المجتمع المصري وفي دوْر مصر العربي والإقليمي. وانتقل الدكتور مقصود للحديث عن ثورة الخامس والعشرين من يناير فقال: "لقد جاءت استجابة من الشعب المصري لشَرارة الحركة الثورية التي انطلقت في تونس ثُمَّ ألهَمت الحركة الثورية المصرية شعوب اليمن وليبيا وسوريا، وجاءت كلها تمرُّدا على الظلم والطُّغيان، ويمكن أن تتحوّل من حركة ثورية إلى ثورة مكتمِلة الأركان، إذا تمكَّنت من استكمال أهدافها في التغيير الهيكلي والجِذري للنظاميْن، السياسي والاقتصادي، والتحرر من التبَعِية للخارج، بعدَ أن أنجزت مهمَّة تمكين الإنسان المصري وكسْر حاجز الخوف إلى الأبد." غير أن السفير مقصود نبَّه إلى أن الحركة الثورية في مصر، رغم نجاحها في إسقاط رأس النظام ورموزه، فإنها تُعاني حاليا من التَّجاذُب بين تيارات متعدِّدة، ما بين الإخوان المسلمين والسلفيين والليبراليين واليساريين والناصريين والمتلوِّنين بين النظام السابق والقادم. فإذا فقدت الحركة الثورية المصرية بَوْصَلتها الموحّدة نحو تحقيق الأهداف التي قامت من أجلِها واستسلمت لتعدُّد البَوْصلات، بحيث يُحاول كل تيَّار أن يوجِّهها نحو ما يريد، فإنها ستفقِد وِحدة الهَدف وستضَلّ الطريق نحْو التحوّل إلى ثورة حقيقية تحقِّق التغيير الجِذري العميق والتحوّل المنشود نحو ديمقراطية حقيقية، من شأنها أن تكون نموذجا تحتذيه باقي الشعوب العربية. كيف يتم التكامل بين ثورتَيْ مصر؟ واختتم الأستاذ صبحي غندور، مدير مركز الحوار، الندوة بطرح رُؤيته لكيفية تحقيق نوْع من التكامل بين الثورتيْن المصريتيْن، فقال إنّ ثورة 23 يوليو في عام 1952، بدأت "انقلاباً عسكرياً"، لكن هذا "الانقلاب" تحوّل إلى ثورة شعبية عارمة، بعدما وقف مُعظم الشعب المصري مع التغيير الذي حدَث ونقَل مصر من حالِ نظام الفساد وحُكم "النصف بالمائة" والارتهان للمستعمِر" البريطاني، إلى حال من التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية والتنمية الوطنية وإنصاف الفلاّحين والعمال والفقراء، وتخليص مصر من تحكّم الإقطاع ورأس المال المستغَل والمرتبِط آنذاك بالمصالح البريطانية والفرنسية. وقال، إن ثورة يوليو سُرعان ما انطَوت على بدء دور مصر العربي والإفريقي في دعْم "ثورات" التحرّر الوطني من قوى "الاستِعمار" الأجنبي. وعاشت المنطقة العربية في بداية الخمسينات وحتى منتصَف السبعينات من القرن العشرين – رغم الكثير من التعثّر والانتكاس - صحوةً عربية لم تعرف لها في تاريخها الحديث مثيلاً. فالخمسينات التي كانت موقعاً زمنياً وسطياً للقرن العشرين، كانت أيضاً من خلال قيام "ثورة 23 يوليو" عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، بدء انطلاق حركةٍ تحرّر عربية وسطية "لا شرقية ولا غربية"، ترفض الانحياز إلى أحد قطبَيْ الصراع في العالم آنذاك وترفض الواقع الإقليمي المجزِّئ للعرب، كما ترفض أسلوب الضمّ العسكري وسياسة التحالفات الاستعمارية، وكانت كلها مصادر إشعال لتيّارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقِع مصر وثقلها القيادي وحقّق للمرّة الأولى صحوةً نهضويةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة. وأعرب الأستاذ صبحي غندور عن اعتقاده بأن هذه "الصحوة العربية" كانت في غالبيتها "حالةً شعبية" أكثر منها "حالة فكرية" أو "تنظيمية". فالشارع العربي كان مع جمال عبد الناصر "القائد"، لكن دون "وسائل سليمة" تؤمّن الاتصال مع هذه القيادة. فأجهزة المخابرات كانت هي "وسائل الاتصال" في معظم الأحيان، بدلاً من البناء التنظيمي المؤسَّساتي السَّليم للمجتمعات ولهذه الملايين العربية في بلدان المشرق والمغرب معاً وقال: "إنّ أهمّية ما حدث في "ثورة يناير"، هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل. فجدار الخوف النفسي الذي كان يفصِل بين المواطن وحقوقه في الوطن قد تحطّم وجرى إعادة الاعتبار لدوْر الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات. وفيما يستذكر العرب هذه الأيام مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، فإنهم يشعرون بالأمل في أن تعود مصر إلى موقِعها الطبيعي ودورها الطلائعي الإيجابي في الأمَّة العربية وقضاياها العادلة." ويرى الأستاذ صبحي غندور أن أهمّية ما حدث في مصر في "25 يناير 2011" من "ثورة" شعبية، كانت في مُجملها وفي شِعاراتها، ثورة على الفساد والاستبداد والتبَعية للخارج. وهناك أمَل كبيرٌ بشباب مصر وطلائعها الوطنية، في أن تنتقل من "الثورة" الشعبية (في الأسلوب) إلى "الانقلاب" على ما كانت عليه مصر من واقع قبل "ثورة يناير"، لا على واقع الأوضاع الداخلية المصرية فقط، بل للتصحيح أيضاً لِما اعتُمِد من مسارٍ سياسيٍّ خارجيٍّ خاطِئ في عهدَيْ السادات – مبارك. وخلص الأستاذ صبحي غندور إلى وجود حاجة ماسَّة إلى التكامل المطلوب بين ما قامت من أجله "ثورة يوليو" وما كانت عليه من نهْجٍ تحرُّريٍّ عربي، وبين ما أجمعت عليه "ثورة يناير" من أهداف سياسية واجتماعية، وبحيث يتم الإستفادة من أخطاء الماضي في العُبور إلى مستقبل أفضل، حيث أن مصر بحاجة إلى هذا التكامُل بين الثورتيْن، والأمّة العربية جمعاء بحاجةٍ إليه أيضاً. المصدر: سويس انفو