لم تعجبني البراعة السياسية لوزير الخارجية البريطاني (وليم هيج), عندما قال بكل ثقة ودهاء بعد العدوان غير القانوني ولا الشرعي علي ليبيا, إنه بعد إرساء الديمقراطية في العالم العربي ليس هناك مانع من مشاركة هذه الشعوب لهم أي الأوروبيين في الإنجاز الحضاري والرفاهية الاجتماعية التي يتمتعون بها!, فهذا الكلام أو اللغو يأتي في سياق التبرير السياسي لهجمات الناتو علي الشعب الأعزل في مناطق مختلفة من ليبيا, وراح ضحيته الأبرياء الذين يقعون بين المطرقة والسندان, أيضا يخسر الشعب الليبي بنيته الأساسية ويتعمق الشرخ الاجتماعي, باختصار موت وخراب ديار, وهذا القدر الذي كتبه الناتو الحلف المستعمر علي الشعوب الضعيفة, لا يبشر بأي رفاهية يمكن أن ينتظرها الليبيون أو غيرهم من هدم الأوطان وإراقة دم الأبرياء, وهم رفاهية حضارية مهداة من الأجنبي لشعوبنا العربية التعسة قبض للرياح فقد تم إجهاض كل مشاريع التنمية الحقيقية من (محمد علي) وحتي الآن علي يديه الملطخة بالدماء العربية, ورغم وضوح الأهداف الاستعمارية إلا أن آليات التبرير السياسي للهيمنة وتبرير استخدام القوة كما هي في استخدام آلية فرق تسد, وهي عادة ما ترتدي شعارات براقة حسب البراعة السياسية لا حسب الواقع. هذه الآلية مع قدمها إلا أن تسارع التحولات العالمية من حولنا قد أربكت ما وقر في الذهن ومن تجارب التاريخ من يقين يدرك حقيقة وأبعاد الصراع علي المصالح, الذي يتخذ في كل مرحلة تاريخية خريطة جديدة لتزييف وعي الناس, فيتشبثون بالشقاق فيما بينهم دينيا ومذهبيا أو حتي أخلاقيا, فيتم استخدام الشعار لإيجاد وقائع علي الأرض تفضي في النهاية إلي تحقيق المصالح الاستعمارية, التي تزداد اشتعالا في الزمن الحاضر أكثر من أي وقت مضي, فالتنافس العالمي علي النفوذ ازداد في الوقت الحاضر بعد سقوط الاتحاد السوفيتي صاحب الأيديولوجية الشيوعية والتي انتهت وحل محلها الاتحاد الروسي كقوة رأسمالية جديدة تسعي نحو مصالحها البرجماتية, فاصبح العالم ساحة للتنافس العالمي الرأسمالي, كل طرف يقوده بمايحقق مصالحة علي حساب الضعفاء, الذين لا يجيدون إلا التبعية لهذا أو ذاك, ويتم التضحية بمصالحهم في سبيل مصالح القوي الاستعمارية الكبري, حيث تقوم فلسفة الرأسمالية علي التنافس الداخلي والخارجي بكل درجاته, ويأتي في إطار هذا التنافس الحرص علي تأمين الحصول علي المواد الخام وأهمها البترول وفتح الأسواق وأيضا العمالة الرخيصة وكل ذلك ما هو إلا العوامل التاريخية التي أدت لظهور الاستعمار وأطماعه, فاستخدم كل الوسائل لفتح الحدود عنوة لإرساء قواعد الحضارة العالمية الواحدة. قواعد الحضارة العالمية التي يسعي الغرب لتعميمها كقواعد معيارية لكل الشعوب, تغفل عن عمد الفروق الهائلة في مستويات النمو بين مختلف الدول, ويتم إدخالها في منافسة شرسة في النظام العالمي الجديد, حتي يحكم عليها بالفناء, فأصبح النضال الحقيقي للشعوب الضعيفة ينحصر في الاستقلال في رسم خطط التنمية والتعاون الخلاق للتكامل الاقتصادي فيما بينها, وهو ما يرفضه الاستعمار الذي استخدم ولايزال إشعال الحروب وإيجاد الأزمات حتي يضع يده الثقيلة علي الخامات والأسواق التي تضمن له وحدة الرفاهية, التي حددها لنفسه لا للشعوب الضعيفة المتناحرة بسبب الدين والعرق.. وغيرها مما يزرعه الاستعمار وأعوانه, وننجزه نحن لهم علي أرض الواقع, من ثورات دائمة لاهية عن المصالح الوطنية والقومية, ومخربة لاقتصاديات ضعيفة في أمس الحاجة إلي الاستقرار لرفع مستوي هذه الشعوب, التي تحتاج لقيادات كفؤة تفهم أبعاد الصراع الدولي والسباق المحموم نحو المصالح, وتكشف الوعود الكاذبة بالرفاهية المزعومة عن طريق الثورات الدائمة أوالوقوع في فخاخ التناحر الطائفي دون جدوي, فقد نشفت البركة وبانت زقازيقها!, أي اتضح الصالح والطالح بعد كل هذه التجارب التاريخية, فعلينا أخذ العبرة مما جري لنا ولغيرنا في هذه المرحلة التاريخية الحرجة فأخطر ما يضر بنا هي ذاكرة الأسماك التي تنسي بسرعة! إذا كانت تراجيديا إنهيار الاتحاد السوفيتي قد أضرت بنا كشعوب فقيرة أصبحت فريسة للقطب الواحد الذي يحكم العالم, فإن ملحمة نهوض الاتحاد الروسي تحت قيادة فلاديمير بوتين, بعد مرحلة تحول خطيرة تستحق أن تروي, وهي التي جعلت من هذا الرجل زعيما لأمته بلا منازع منذ خروجه من السلطة كرئيس للدول, ولكنه لم يخرج من قلوب الروس, فأصبح بوتين ملكا علي القلوب بعد أن كان مجرد رئيس جاء من المجهول في ظروف غاية في الصعوبة. كانت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في حالة تخبط هائلة وأجري الرئيس السابق بوريس يلتسين إصلاحات إقتصادية جذرية, بشعارات فضفاضة عن الرفاهية والحداثة, حطمت مستويات المعيشة لغالبية السكان منذ توليه السلطة في يونيو 1991, فانتشرت البطالة, وساد الفساد والتضخم, وتدهورت الخدمات, بل توحشت المافيا الروسية, حتي استقال يلتسين أو أجبر علي الاستقالة عام 1999 في خطاب اعتذر فيه للشعب الروسي عن عدم تحقيقه لأحلامهم, ورشح فيه بوتين رئيس الوزراء آنذاك لخلافته, فكانت الحسنة الوحيدة التي قدمها لهم. تصدي بوتين للمتطرفين يمينا ويسارا, فكلاهما لا يبيع إلا الأوهام بالشعارات المحتالة, فرفع عن نفسه وبلاده عبء الأيديولوجيا الجامد, واتجه للبناء الوطني الداخلي, والتف حوله الناس الذين أرهقوا من الفساد والفقر, لكنه لم يقدم لهم حلولا سحرية, بل خطط وبرامج ومؤسسات مستقلة وكفاءات مقتدرة واستغلال للطاقات المتاحة, التف كل ذلك في عملية بناء طويلة المدي, وفي الأطر الشرعية للدولة, وقضي علي العملاء والمتاجرين بآلام الناس فهو أدري بهم كضابط في المخابرات وسكرتير سابق لمجلس الأمن القومي الروسي! أيضا بفضل خبرته في الإدارة والاقتصاد, استطاع أن يعيد لروسيا مكانتها الدولية, واستعاد الاقتصاد الروسي قوته, وأنهي الحرب في الشيشان, وأصبحت روسيا لاعبا دوليا مهما, وقادرا علي المنافسة, والحفاظ علي مصالحها علي مستوي العالم, والمدقق في أحداث الانتفاضات العربية يجد أن قناة روسيا اليوم الأكثر مصداقية, في تحليلاتها للأبعاد الحقيقية لهذه الانتفاضات من أجل خلع الاستبداد والتوق إلي الحرية, وكيفية استغلال القوي الاستعمارية لهذه الأهداف النبيلة, لتدمير الأوطان بالآله الإعلامية والعسكرية معا, وعندما تفضح (روسيا اليوم) هذه الأطماع لاتفعل ذلك حبا في فعل الخير, بل لأن ذلك خصما من مصالحها الاستراتيجية! عالم اليوم.. عالم مصالح, وتحقيقها يتطلب تصالحا وطنيا وتضامن قوميا ودوليا, للحصول علي أفضل الشروط لتحقيق آمال الشعوب, وهو ما نجح فيه (فلاديمير بوتين), مما جعل الروس يكونون حاليا جبهة شعبية من حوله, لإعادته إلي موقع الرئاسة العام المقبل, ليشهد أوليمبياد (سو تش) الذي جلبه لروسيا ليقام بها عام 2014, وهناك من هم علي ثقة بأنه سيشهد كأس العالم بروسيا عام 2022, كأنه صار ملكا ولكنه ليس ككل الملوك!. المزيد من مقالات وفاء محمود