كان السؤال الصعب دوما هو كيف نوفق بين ضرورة وحتمية احترام نتائج أول استفتاء شعبى حقيقى فى تاريخ الحياة السياسية المصرية فى أن تكون الانتخابات البرلمانية أولا وبين الحؤول دون استفراد القوى الإسلامية بتكوين اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور إذا ما فازت بنصيب الأسد فى الانتخابات ، وهو ما كان يعنى بشكل عملى عدم تضمين الدستور الجديد للمبدأ الأهم للثورة الشعبية فى أن تكون الدولة المصرية مدنية . وقد كانت هذه المخاوف هى المحرك الأساسى للتظاهرات التى رفعت شعار « الدستور أولا» والتى كانت تنادى بإسقاط نتيجة الاستفتاء مما يضع الثورة فى اختيار صعب بين الاحتكام الى الغالبية وبين الوقوع فى براثن الدولة الدينية .. ورغم ما تحاول جماعة الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى تسويقه من أنهم يؤيدون الدولة المدنية ، إلا أن كل المؤشرات تدل على أنهم لن يسمحوا بالتخلى عن أحلام الدولة الدينية عندما يتمكنون من السلطة .. وعلى المستوى الشخصى تأكدت من صدق وجدية هذا التوجه من خلال سؤال مباشر وجهته الى واحد من الكتاب المعروفين بميولهم الاخوانية حول ما إذا كان الإخوان سوف يسمحون بنص دستورى صريح حول مدنية الدولة ؟ .. قال الرجل صراحة إن هذا لن يحدث وان أحدا من الإخوان لن يسمح بمثل هذا النص الدستورى ، فما البال بالجماعات الإسلامية الأكثر تشددا ؟ . وربما جاء الإعلان عن إعداد وثيقة مباديء حاكمة لاختيار الجمعية التأسيسية لإعداد دستور جديد وإصدارها في إعلان دستوري بعد اتفاق القوي والأحزاب عليها ، ربما يكون ذلك حلا أخيرا لابد منه بعيدا عن مخاوف سيطرة فصيل بعينه على اختيار هذه الجمعية ، و بما ينجو بمبدأ « مدنية الدولة «مما يمكن أن يوصف ب « ديكتاتورية الأغلبية» ليهدئ من روع القوى السياسية التى تخشى من أن تميل التحولات السياسية الناجمة عن ثورة يناير الى سيطرة التيارات الدينية، وتمكنها من جر البلاد الى هاوية الحكم الدينى وما يتبعه من أخطار وأهوال . وقد كان لافتا للانتباه تلك اللهجة الحاسمة التى استخدمها اللواء محسن الفنجري بينما كان يحذر من محاولات البعض القفز علي السلطة فى البيان الذى ألقاه مؤخرا باسم المجلس الأعلي للقوات المسلحة .. وبدا للبعض أن الجيش بدأ يكشر عن أنيابه .. لكن الحقيقة هى أن الديمقراطية الوليدة هى التى بدأت تكشر عن أنيابها من خلال جدية المجلس العسكرى فى التصميم على الوصول بالثورة الى أهدافها دون الخضوع لرغبات فصيل دون آخر ، وأيضا من خلال عدم التسليم بتحويل الثورة الى نوع من العبث بأمن ومستقبل ومصير الوطن من خلال تصرفات تتسم بالصبيانية والمراهقة والهستيرية تسمح بدخول عناصر ليس لها ادنى علاقة بالثورة وأهدافها على خط الثوار واختطاف ثورتهم البريئة وارتكاب جرائم تصل الى حد الخيانة العظمى تحت زعم الثورة من نوع قطع الطرق والسكك الحديدية وتعطيل المصالح الحكومية والمنشآت الإنتاجية وإثارة الذعر والفزع بين الناس والاستيلاء على ممتلكات الغير، وأخيرا التهديد بوقف الملاحة فى قناة السويس .. ولا احد يدرى ماذا يمكن أن تصل إليه هذه الأفكار الإجرامية من أفعال هى من قبيل الخيانة العظمى التى صارت بطولات لدى البعض هذه الأيام . ومن الطبيعى أن تشهد الأيام الأولى من الثورات نوعا من الفوضى البناءة أو الخلاقة التى تأتى نتيجة لعدم وجود قيادة فعلية فى الشارع .. ولكن فى الحالة المصرية كان من المفترض انه بمجرد أن تبنت القوات المسلحة لمبادئ الثورة، وتمكنت من حمايتها وأنقذتها من الوقوع فى براثن العنف وحمامات الدم ، وبمجرد أن تم تحديد خريطة الطريق من خلال الاستفتاء الشعبى ، كان لابد للفوضى أن تهدأ بعد استكشاف الطريق نحو نهاية النفق .. ولكن أن يعمد البعض الى تحويل الفوضى المشروعة والمحتملة الى نوع من التدمير المنظم لمقدرات الوطن تحت زعم تحقيق أهداف الثورة ، فذلك يدعونا أولا الى التعرف بدقة على هؤلاء ؟ من هم ومن يمولهم ولصالح من يعملون ؟ .. وعند نقطة معينة لابد - كما طالبنا فى مرات سابقة - من إعلان الأحكام العرفية بكل ما تعنى من صرامة فى مواجهة الخارجين عن القانون .. فالموضوع هنا لم يعد ثورة على نظام فاسد ، بل أصبح مؤامرة على مستقبل ووحدة أراضى وطن وشعب .. على أن اخطر ما يغذى هذه الفوضى والمؤامرة هو ذلك الانفلات الاعلامى الذى طالما حذرنا منه والذى كان إحدى علامات بداية الانهيار للنظام الفاسد .. وقد اخذ الانفلات الاعلامى على عاتقه النفخ فى كل ما من شأنه إشعال الفتن سواء طائفية أو فئوية ، وكل ما يمكن أن يزيد من مساحات الاختلاف فى الرأى والرؤى تحت شعار الديمقراطية، وكل ما من شأنه بث الكراهية والفرقة بين الشعب وقواته المسلحة وأفراد الشرطة المدنية الذين ربما كانوا من أكثر الفئات الى عانت من فساد وتعنت قياداتها السابقة . نحن أمام لحظة فاصلة بحق .. إما أن نتجاوزها الى ما بعدها من مستقبل مشرق .. وإما أن تأخذنا الى هاوية سحيقة لا تقوم لنا بعدها دولة ولا كيان .. وعلينا أن نختار . !! المزيد من مقالات محمد السعدنى