تبوح الرسومات واللوحات في أحيان كثيرة بمعان ورؤي تعجز معها الكلمات.. وتصبح الرسومات هنا أبلغ من أي عبارات. هذه رواية بدون كلمات كما أسماها الفنان جورج البهجوري. رواية روت حكايتها وأحداثها ومشاهدها ريشته السوداء. تلك الريشة التي ظلت تصاحبه في كل مكان تطؤه قدماه في أرجاء مصر المحروسة.. في صحاريها الصفراء.. بالقرب من نيلها الخالد.. في قريته بصعيد مصر.. في الأحياء الشعبية القديمة.. في رحلاته النيلية بالأقصر وأسوان.. في زحام وسط القاهرة.. أمام صفحة البحر الزرقاء بمرسي مطروح ورأس البر.. رافقته ريشته أيضا في أسفاره المختلفة.. في باريس عاصمة النور والجمال.. في قلب مدينة الفنون حيث مرسمه الذي يطل علي( نوتردام) دانتيللا الحجر الساحرة علي حد كلماته.. في شاطئ البحر ب( الكوت دازور).. في جندول في فينيسيا.. في جبل بيوغوسلافيا.. في أرجاء سوق بشمال إفريقيا.. في عواصم العالم العربي. يصحب الفنان معه في كل مكان يذهب إليه أوراقه البيضاء وريشته السوداء.. تتحرك الريشة بسرعة بين يده في كل اتجاه.. وتدب الحياة رويدا رويدا في قلب الصفحة البيضاء, تاركة خلفها مشاهد ورسومات تعكس معها رؤاه وتأملاته, وربما أيضا فلسفته. يقول الكاتب الكبير الدكتور ثروت عكاشة في مقدمة الكتاب: من يتأمل رسوم البهجوري يلمس علي الفور مقدرته التلقائية علي بث الحيوية في موضوعه المصور وكأنه كائن حي.. فهو يغوص بكل كيانه وملكاته في جوهر موضوعه كي يتسني له الارتقاء بلوحته من مجرد نقل الشكل الظاهري للموضوع إلي نقل مضمونه وجوهره. ويصف عكاشة حركة الريشة فوق الورقة قائلا: تسقط نقطة الحبر الأسود علي الورقة البيضاء.. تحدث صوتا مدويا وانفجارا.. ثم تشققات وسط تضاريس كأنها سطح الكرة الأرضية.. تتخربش الريشة في كل اتجاه حول الحبر الأسود.. تدب الحياة رويدا حولها كأن صفحة الورقة الناصعة البياض أصبحت هي نورها وتدرجات الحبر الأسود إلي الرمادي هو ظلالها. ذات يوم نصحه الفنان الكبير حسين فوزي رائد فن الحفر قائلا: العب يابني بالحبر الأسود.. العب يابني بالقلم. واستمع الفنان إلي نصيحة أستاذه الكبير.. وصار القلم الأسود لا يفارق يده. عيناه تلتقطان في ذكاء وحنكة مشاهد مصرية أصيلة تنبض بحب مصر سرعان ما تترجمها ريشته في لوحات معبرة.. ودائما مايتبدي البسطاء في تلك اللوحات وهم يلهثون وراء لقمة العيش.. في الأزمة.. في الحواري.. والمقاهي في حي الحسين والسيدة في شوارع وسط البلد المكتظة. رسم البهجوري لاعب( الأكروبات الشعبي) الذي يحمل عشرات الأرغفة فوق رأسه ويطير بها وسط مرور القاهرة الذي يعج بالزحام.. ورسم كذلك بائع( الجيلاتي) وبائع السميط والميكانيكية الذين يرقدون أسفل السيارات القديمة المتهالكة.. رسم المكوجي.. وبائع الفيشار.. وبائع قراطيس اللب المملح الأبيض والأسمر.. رسم أيضا عربة الفول التي تفترش الطريق ويتجمع حولها الناس.. رسم الأفران والجوامع.. وساحات المساجد. ويوم العيد علي ضفاف النيل. رسم الحارة المصرية بملامحها ومفرداتها المختلفة. مسجد الحسين تبدي في أكثر من لوحة من لوحاته.. قهوة الفيشاوي والغوري والمشربيات الجميلة.. مشاهد مصرية خالصة تؤكد هويته وعشقه بلاده. يقول عنه الروائي الكبير خيري شلبي: مصريته في قبطيته الأصيلة التي تربت في كنف الثقافة الإسلامية فأصبحت قبطية مسلمة.. تقدس القرآن كما تقدس الإنجيل.. تحلف بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كما تحلف بالمسيح الحي. تحية عطرة لهذا الفنان المصري الجميل. يقع الكتاب في270 صفحة من القطع الكبير والطباعة الفاخرة عن دار الجميل للنشر والتوزيع. [email protected]