ما بين الموت والخيال يتوقف القلم لأول مرة عند بداية السطر محتارا مثقلا غير قادر علي التنقل برشاقة كما كان من حرف إلي حرف, من كلمة إلي كلمة, من سطر إلي سطر.. والسبب ؟ طعنة الموت!! تلك الطعنة المباغتة النافذة تنقض علي الأحياء والأموات علي حد سواء بسلاح له مذاق,تتفاوت مرارته بحسب الطعنة في الأفواه فذاك مصاب في أعز الناس, وذاك أيضا مصاب في واحد من الناس.. مجرد واحد من الناس, ولتظل الطعنة ولو بعيدة ذات مذاق!! فإذا كان الموت بالنسبة لهذا مصيبة, فإن نفس الموت بالنسبة لذاك تذكرة,ولقد كانت مصيبتي منذ أيام في أعز الناس أخي!! ومن اكبر نعم الله التي لا تعد ولا تحصي هو تلك الآلة العملاقة غير المحدودة القادرة علي التحليق في كل مكان وكل زمان بلا أدني حاجة إلي وقود إنه الخيال, ينتزعك بسرعة الضوء أو ربما أسرع إلي ما تشتهيه نفسك وأنت الجالس وسط أنقاض واقعك الأليم, يطوف بك مثلما شئت وكيفما أردت بدون حساب, يعيد إليك ما لم يعد في متناول يديك وهذا أضعف أنواع الخيال!! ذلك لأنه يحلق في حدود متطلبات الجسد, كمثل الجوعان الذي يحلم بسوق العيش, أو الفقير الذي يزغلل خياله شبح المال,أو المكلوم الذي يمني النفس برؤية من فارقه!! ولكن تري الخيال علي هذا الحال وهو رحمة من رحمات الله قادرا علي أن يشبع الحواس ويعوض الإنسان ؟ أم تراه سرابا يحسبه الظمآن ماء يمني النفس بما لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ أعتقد أنه سراب, صحيح أنه ضروري, ولكنه ليس مشبعا لجوع النفس وعطشها لتحقيق الرغبات, وهكذا الإنسان شديد الارتباط بكل ما هو مادي دائما!! أما الخيال القوي فهو في رأي ذلك الخيال القادر علي انتزاعك من صغائر ما ترنو إليه نفسك علي النطاق الشخصي منطلقا بك إلي ما هو إنساني عميق وليس ما هو شخصي فإذا بك تقترب من جوهر الحقيقة الملثم دائما وراء الأحداث; تحدث الأحداث وتتلاحق, ويظل جوهر ما قابع خلف ما يحدث.. أيا كان ما يحدث!! فإذا بالخيال يساعدك علي أن تتفهمها الحقائق!! واليوم أجدني لست أنتوي الخوض في الحديث عن مصابي الشخصي فليس من حقي أن أفرضه عليك, وإنما سأنطلق بك قدر ما أستطيع إلي ما هو ملثم خلف الحدث الموت نفسه!! الموت.. حديث متصل يكره الناس الاقتراب منه; وكأن في الحديث عنه استدعاء لشيء قد يأتينا وقد لا يأتينا, والحقيقة أنه آت آت!! الوجوه تتلاحق وتكاد تتشابه وهي تشد علي يدي في عزاء مهيب, مئات من الناس أو قل آلاف أراها جهارا أمام ناظري, وأجزم أنهم وقوف وأحيانا جلوس من حولي, ولكني للأسف لا أشعر سوي بشخص واحد أخي الذي فقدته!! غريب هذا الشعور: أيطمس الخيال كل ما هو مادي إلي هذا الحد ؟ من منهما الأقوي إذن: الخيال أم الواقع ؟ من منهما إذا ما تحركت آلته دهس الآخر وجعله ركاما ؟ كنت أظنه الواقع المادي الملح بأدوات الحواس حتي وقت قريب, ولكن يبدو أن الخيال يتفوق دائما ما إن تدفعه الأحداث إلي حافة الإلحاح, أو ربما ما إن تعرف أنت مفاتيحه فتأججه وهذا هو الأهم!! وأسأل نفسي الصامتة الحائرة وأنا الواقف وسط الجموع: حتي أحبائي الذين لم يفارقوني بعد, أتري حواسي المادية تدركهم في كل ثانية من ثواني العمر, أم تراهم مجرد صور أيضا في خيالي كلما أردت استدعيتها.. فارتويت ؟ يا إلهي, نحن جميعا مجرد أفكار في مخيلة بعضنا بعضا, أفكار داله علي أجسام مادية موجودة ولكن حواسك نفسها التي تسعي أنت كل السعي من أجل إرضائها لا تجعلك محيطا بكل هذا البشر أو مشبعا به حتي ولو اجتمع حولك كل البشر!! أما الأهم فهو أن كل حياتنا, عودة من تلك اللحظة إلي عشرات سنين مضت, ما هي إلا أفكار تعيش في مخيلتنا بحلوها ومرها.. كل شيء نمر به سرعان ما يترجم إلي أفكار في جعبة الخيال لا ندركه بالحواس أبدا, بل هو مجموعة متراصة متراكمة من لحظات ماتت.. وهكذا الناس التي عرفناها أو سنعرفها كل شيء وأي شيء هو في الحقيقة مجرد خيال!! نحن نعيش في الخيال أصلا ولا نشعر, نجني بالحواس الخمسة في كل ثانية من عمر الزمن رصيد رهيب من الخيال نعيش فيه ويعيش فينا طفولتنا الآن خيال, وشبابنا خيال, ودراستنا خيال,وزواجنا خيال,وميلاد أطفالنا خيال واستدعاء دائم لأحداث ماتت فعليا ولا يمكن أن نعيشها أبدا سوي في الخيال!! يا إلهي, إن الخيال هو الواقع الأشمل وما الواقع إلا حصاد لمزيد من الخيال!! أننا نفقد كل شيء في الواقع بما في ذلك الواقع نفسه.. ولكننا أبدا لا نفقد الخيال!! أنت شخصيا بالنسبة لنفسك خيال, فلست أنت الذي ينظر إلي المرآة الآن هو نفس الشخص الذي نظر إلي نفس المرآة بالأمس البعيد أو حتي القريب!! فالذي كان هو شخص أخر بملامح مختلفة تتبدل وتتغير في كل لحظة علي نحو بطئ ولكنها تتغير!! ألا تصدقني ؟ إذهب الآن إلي ألبوم صورك الشخصية منذ خمسة سنوات فقط وأمعن النظر ثم قارن شكلك في الماضي بشكلك الآن, لقد تغيرت يا عزيزي وصارت صورتك القديمة مجرد خيال!! نصف عمرك نفسه خيال; فأنت منقسم ما بين استيقاظ ومنام, بينهما برزخ لا يبغيان,فإذا بغي هذا علي ذاك اختلت معادلة الإنسان!! فاللهم لا تحرمنا من نعمة الخيال وأقرر اعيننا برصيد الذكريات وارحم موتانا وأعنا فأنت وحدك المستعان. المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم