وسط الغيوم التى تتلبد بها سماء السياسة المصرية، منذ أحداث مسرح البالون، ثم اخلاء سبيل الضباط المتهمين بقتل الثوار فى السويس، وأحكام البراءة لبعض رموز النظام السابق، وظهور التقارير عن خلاف بين رئيس الوزراء والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهى الأحداث التى تفاعلت لتفضى إلى جمعة «الثورة أولا» يوم 8 يوليو الماضي.. وسط كل هذه الغيوم ينبغى أن لا نغمض أعيننا عن اشعاعات الضوء القوية التى اخترقت الحجب الكثيفة فى سماء القاهرة والإسكندرية والسويس، وغيرها من مدن ومحافظات مصر، وليست هذه دعوة للتفاؤل دون مبررات، كما أنها ليست خداعا للنفس عن رؤية المخاطر الجسيمة الماثلة على طريق الثورة والوطن، فالأمل موجود، ولكن مبررات القلق قائمة وقوية. يأتى فى صدارة أسباب التفاؤل أن جميع أطراف الأزمة الحالية وهى أزمة بالفعل بدوا واعين لدرس ليلة البالون، ومن ثم حرص الجميع على تجنب الصدام بكل الوسائل، وفى كل مرة انطلقت دعوة أو محاولة للتصعيد فى اتجاه الصدام أو العنف، أو الخروج على تقاليد ثورة 25 يناير فى الاحتجاج، والتظاهر السلميين، أو حتى الاعتصام السلمى كانت هذه المحاولة أو تلك الدعوة لا تلبث أن تتلاشى بوعى وإرادة من رافضيها. حدث ذلك عندما أحبطت الدعوة لتعطيل مترو الأنفاق فى ميدان التحرير، وتكرر الأمر ذاته عندما تجنب مواطنونا فى السويس الانسياق وراء دعاوى تعطيل الملاحة فى القناة ثم نفى مواطنو السويس فى اليوم التالى مباشرة وجود ما يسمى بكتائب القصاص لشهداء الثورة، والتى كان نبأ ظهورها نذير شؤم لم تتحمله ضمائر أشد الناس تعاطفا مع الشهداء وأهليهم، وأكثرهم دفاعا عن حقوقهم، والقصاص بالقانون من قاتليهم ، ومن أصدروا الأوامر بقتلهم، وذلك خوفا على الوطن من مصير مظلم انساقت إليه دول أخرى نرجو ونتصور أنه من المستحيل أن تنزلق مصر إلى الحضيض الذى تعيش فيه هذه الدول، والأمثلة قريبة منا على ما تفعله ثقافة الميليشيات بالأوطان من لبنان إلى اليمن إلى الصومال. على هذا النحو يمكن أن تعتبر عملية إغلاق مجمع التحرير استثناء من هذه القاعدة لأن الأيام التالية لإغلاق المجمع كشفت عدم موافقة أغلبية المحتجين المستقلين أو المنضوين تحت راية ائتلافات الشباب وغيرها من الحركات الثورية على الدعوة إلى العصيان المدنى الشامل، كذلك جرت المظاهرات يوم الثلاثاء الماضى أمام مجلسى الوزراء والشعب بصورة سلمية، وتوج ذلك كله بمبادرة نبيلة من 19 حزبا وحركة سياسية لدعوة جميع القوى فى البلاد إلى الحفاظ على سلمية ثور 25 يناير فى كل مراحلها وموجاتها، باعتبار أن سلمية هذه الثورة لم تكن فقط من أهم أسباب نجاحها، ولكن من أسباب تصنيف مجلة عالمية ذات مكانة رفيعة مثل مجلة تايم الأمريكية لهذه الثورة بوصفها واحدة من أكثر الثورات تأثيرا فى تاريخ البشرية كلها فى القرون الأربعة الأخيرة. فى الوقت ذاته، وعلى الوجه الآخر من العملة، كان درس ليلة مسرح البالون ماثلا أمام قوات الشرطة بعد أن ثبت لدى لجنة تقصى الحقائق التابع للمجلس القومى لحقوق الإنسان أنها أفرطت فى استخدام القوة ووسائل فض المظاهرات، وذلك فى الوقت الذى ثبت فيه أيضا لدى هذه اللجنة أن أحداث البالون كانت مدبرة منذ بدايتها، وهكذا امتنعت الشرطة عن التدخل ضد المحتجين بأى صورة من الصور، فى الوقت الذى التزمت فيه القوات المسلحة بعدم استخدام القوة ضد المواطنين مهما تكن الظروف، ولا ينبغى لمزايد هنا أن يعتبر تدخل الشرطة العسكرية لفتح طريق قطعه متظاهرون بما يعطل مصالح بقية المواطنين تخليا عن مبدأ عدم استخدام القوة ضد الشعب. أما بقعة الضوء الكبيرة الساطعة وسط غيوم السياسة المصرية فيما بعد ليلة البالون، وجمعة «الثورة أولا»، فهى ثبوت أن الرعب الذى يشعر به أغلب قطاعات النخبة المصرية من سيادة جماعة الإخوان المسلمين وبقية الجماعات السياسية ذات المرجعية الدينية، خاصة السلفيين على الشارع المصرى ليس له ما يبرره على الاطلاق، فكما بدأت ثورة 25 يناير، ومن قبلها كما بدأت الثورة التونسية بدون الجماعات الدينية المسيسة، فإن الزخم الذى أفضى إلى جمعة 8 يوليو جمعة «الثورة أولا» بدأ أيضا بدون هذه الجماعات التى وجدت نفسها مضطرة للحاق به، وإلا انعزلت عن التيار الرئيسى للثورة الديمقراطية، ومع كل الاحترام لحق الإخوان وحزبهم «الحرية والعدالة» وسائر الأحزاب ذات المرجعية الدينية فى الوجود والعمل والتنافس على أصوات الناخبين، فإن افتراض أنهم هم الذى سيحصلون على الأغلبية فى أى انتخابات سواء كانت برلمانية، أو انتخابات لجمعية تأسيسية لدستور جديد أصبح الآن محل شك جدي، حتى وإن فازت قائمة الإخوان بأغلبية مقاعد نقابة الصيادلة كما حدث فى انتخاباتها الأخيرة. هكذا فإن درس 8 يوليو يمكن أن يكون منطلقا للأحزاب المدنية من ليبرالية ويسارية وغيرها للتفاوض مع الإخوان وبقية الأحزاب الدينية من مركز أقوى على صياغة مستقبل ديمقراطى لهذا الوطن، ويجب أن لا ننسى أن حزب الحرية والعدالة بوصفه الذراع السياسى لجماعة الإخوان كان قد بادر بشعور المسئولية مع حزب الوفد إلى تشكيل نواة للتحالف الديمقراطى المصري، الذى أصبح يضم الآن 28 حزبا وحركة، وكان ذلك قبل جمعة 8 يوليو، أى فى الوقت الذى كان فيه الجميع يسلمون بتفوق الإخوان ، ويعبرون علنا عن خوفهم من قوة تنظيم الجماعة وقدرتها على الهيمنة على الحياة السياسية للبلاد من خلال صندوق الانتخابات، فإذا كان من نتائج 8 يوليو أن الإخوان وحزبهم غدوا أقل مما كانت عليه صورتهم قبل ذلك اليوم، فإن الفرصة سانحة الآن لتوافق وطنى أكثر توازنا لمصلحة بقية القوى السياسية، ولمصلحة الوطن ككل. على صعيد السلطات المسئولة عن إدارة الفترة الانتقالية فإنها بدورها أخذت نصيبها من ايجابيات 8 يوليو وما بعدها، فأصبح فى مقدور رئيس الوزراء أن يستجيب لكثير من مطالب الثورة، ولا يجد غضاضة فى وضع جدول زمنى لتلبية هذه المطالب باتفاق «تعاقدي» مع ممثلى حركات وائتلافات الشباب، ومع أن أكثر المتحفظين على بيانات وقرارات رئيس الوزراء الأخيرة يرون أن العبرة بالتنفيذ وليس بالتعهدات، فلا شك أن مطالب مهمة للثورة قد استجيب لها بالفعل، إذ قرر مجلس القضاء الأعلى تفرغ الدوائر التى تنظر قضايا قتل المتظاهرين وقضايا الفساد لهذه القضايا بالكامل، على أن تكون الجلسات يومية أو شبه يومية، وذلك فى إطار من العلانية الكاملة، كذلك أنهيت خدمات كبار قيادات وزارة الداخلية الذين شاركوا فى صنع وتنفيذ سياسة هذه الوزارة فى ظل النظام السابق، وكذلك أنهيت خدمات الضباط المتورطين فى قضايا اطلاق النار على المتظاهرين، وقتلهم فى انتظار محاكمتهم وفقا لمبدأ العلانية والعدالة الناجزة غير البطيئة. ووفقا للجدول الزمنى المتفق عليه بين رئيس الوزراء وممثلى الشباب، والمعلن للشعب فى بيان رئيس الوزراء الأخير فإن الأيام القليلة التالية سوف تشهد تعديلا وزاريا شاملا، وتغييرا كاملا للمحافظين طبقا لفلسفة التخلص من رجال النظام السابق، وهو ما سينطبق أيضا على مؤسسات الإعلام الحكومى والصحافة القومية. كذلك لابد أن نعتبر أن من نقاط الضوء الكاشفة وسط الغيوم الحالية أن غالبية شباب الثورة ورموزها من المستقلين الكبار كانوا ولا يزالون حريصين على تجنب ادخال الثورة والبلاد فى نزاع على السلطة، مع الاحترام لحق المختلفين مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومع مجلس الوزراء فى التعبير عن آرائهم بكل حرية، وقد اقترح بعضهم مثل الدكتور علاء الأسوانى وغيره تشكيل مجلس استشارى يمثل كل الأطياف السياسية ليعمل بمثابة «هيئة نيابية غير منتخبة» فى المرحلة الانتقالية تحت سلطة المجلس العسكري، والدلالة المهمة هنا كما قلنا أن أغلبية رموز الثورة بمن فيهم الأكثر معارضة للسياسات الحالية حريصون على تجنب ادخال الثورة والبلاد فى نزاع على السلطة حتى تسليمها إلى حكومة مدنية منتخبة، وكنا قد اقترحنا فكرة المجلس الاستشارى هذه فى لقاء مع ممثلين للمجلس العسكرى شهده الدكتور محمد أبو الغار والأستاذ سلامة أحمد سلامة والإعلامى حافظ المرازي، باعتبار أن الفراغ السياسى أخطر من الفراغ الأمني، ومهمة هذا المجلس هى أن يطلع على الحقائق ويشارك بالرأى، واقناع الرأى العام كذلك فإن كثيرين ممن تحدثت إليهم وقرأت لهم من القيادات الشبابية للثورة فى بداياتها ومنهم الدكتور مصطفى النجار، والأستاذ جهاد سيف الإسلام، والدكتور عصام النظامي، والأستاذ طارق زيدان، بدوا أيضا واعين لأهمية تجنيب مصر نزاعا على السلطة لسبب آخر مهم، وهو أن لا ينقلب الشعب نفسه على الثورة، بعد أن كان انضمامه إليها هو السبب الرئيسى فى صمودها وانتصارها حتى الآن، فالشعب يريد لقمة العيش مثلما يريد الحرية، والشعب يعى أن الاقتصاد القومى فى خطر، وأن أعمال الكثيرين من أبنائه تعطلت، ودخول الكثيرين منهم قد تقلصت وأن بوادر الانتعاش كانت قد بدأت فى الظهور، وأن الثورة إذا لم تسفر فى مدى زمنى معقول عن تقدم اقتصادي، وتحسن ملحوظ فى مستوى المعيشة جنبا إلى جنب مع تحقيق هدفها الأصلى فى إقامة دولة مدنية ديمقراطية فإنها أى الثورة تكون قد أخطأت فى حق نفسها، وفى حق الشعب. لكن كل تلك النقاط المضيئة لا تنفى وجود الغيوم، فلاشك أن هناك أزمة ثقة ينبغى العمل بكل قوة لازالتها واستعادة روح المصداقية والوحدة التى أعقبت تنحى الرئيس السابق أو خلعه، وقد رصدنا فى مقال سابق هنا أن هذه الأزمة ولدت صغيرة عندما بنى «الإسلاميون» حملتهم للدعوة للموافقة على التعديلات الدستورية على أساس الحلال والحرام بالمعنى الديني، ثم استفحلت أزمة الثقة شيئا فشيئا بالحديث دون سند عن صفقة بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين، ثم التصاعد إلى الدعوة إلى إلغاء نتائج الاستفتاء، والمطالبة بالدستور أولا، لكن أزمة الثقة سرعان ما اتخذت أشكالا أخرى ناتجة عن فارق السرعات ليس بين المجلس العسكرى من ناحية، والحكومة من ناحية ثانية، وقوى الثورة من ناحية ثالثة، كما كتب الأستاذ الكبير سلامة أحمد سلامة، ولكنها أيضا ناجمة عن فروق السرعة بين قوى الثورة نفسها، فالثورة مثلها مثل كل ثورة فى تاريخ الشعوب، بل وفى تاريخ الشعب المصري، تضم الراديكاليين والمعتدلين، بل وبعض المحافظين، وهؤلاء جميعا لهم أولويات مختلفة، وأمزجة متباينة ومصالح متعارضة من الطبيعى أن تظهر تناقضاتها بعد نجاح الثورة فى تحقيق هدفها الأولي، وهو اسقاط النظام، أو فرط عقده بإسقاط رأسه، ومع أن التاريخ يقول لنا إن هذا كله طبيعي، ويقول لنا أن وسائل تسوية هذه التناقضات كانت فى تجارب الشعوب الأخرى غالبا دموية، وأقرب الأمثلة على ذلك الثورة الإيرانية، وهو ما حدث أيضا فى الثورتين الفرنسية والروسية، فإننا فى مصر مازلنا فى الأغلب الأعم من أحاديثنا لا نعتبر أن هذه الخلافات طبيعية، ولا نسلم بأهمية وضرورة تعدد الأجنحة داخل الثورة، باعتبار أن وجود الراديكاليين يمنع انحراف المعتدلين نحو المحافظين، ويدفع المحافظين نحو الاعتدال، وأن وجود المعتدلين يخفف من غلواء الراديكاليين، ويقلل من جمود المحافظين وهكذا. ومع ذلك، وفى تناقض حميد مع تجارب الشعوب الأخرى فإن المزاج المصرى يرفض التسوية الدموية للصراعات السياسية حتى فى أوج عنفوان الثورة، وليست ثورة 25 يناير وحدها هى التى تحرص على ذلك، فقد التزمت ثورة 1919 أيضا بهذا المبدأ السلمى فى تسوية الصراعات بين أجنحتها المختلفة، وهذه نافذة واسعة للضوء والأمل ينبغى أن لا نوصدها مهما يبد الظلام حالكا. [email protected]