سوف يجد الجميع, في مصر( من إسلاميين وليبراليين ويساريين وغيرهم) أنفسهم, في مواجهة حقيقية أن الأنظمة الفكرية التي لطالما التمسوا منها إجاباتهم علي ما يطرحه عليهم واقعهم من أسئلة, لم تعد قادرة علي تقديم اجابات غير مكرورة علي أسئلة اللحظة الراهنة. ومن هنا ما سوف يضطر اليه الكافة, في مصر ما بعد مبارك, من لزوم التفكير خارج حدود الأنظمة والأنساق المعرفية التي استقرت علي مدي قرون. فإذ سيجد الداعي الي الحل الليبرالي نفسه في مواجهة السؤال: لماذا أخفقت وصفته الليبرالية التي تلح علي ضرورة تقييد السلطة بالمؤسسة والتنظيمات البرلمانية والحزبية في إخراج مصر من أزمتها, رغم بدء تعاطي هذه الوصفة العلاجية مع ابتداء النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟, فإن الداعي الي الحل الإسلامي سوف يجد نفسه, بدوره, في مواجهة حقيقية أن المنظومة الفقهية المتوارثة عن السلف, لن تكون قادرة علي مواجهة تحديات ما بعد الخروج من المواقع الذي كان فيه الإسلاميون مجرد معارضين لأنظمة حكم فاسدة( وعلي النحو الذي كان يكفيهم فيه أن يرفعوا راية تقوي السلف في مواجهة فساد الحكم, فيحتشد الناس خلفهم), الي مواقع السلطة التي عليها أن تجد حلولا ناجزة لمشكلات بالغة التعقيد والتركيب, وهي مشكلات لا يمكن توقع العثور علي إجابات جاهزة لها عند السلف, الذين كانوا يعيشون في اطار نظام للعالم يختلف بالكلية عن ذلك الذي يعيش فيه المسلمون اليوم. فقد كان العالم قبل انبثاق عصر الحداثة( الذي لا يمكن حتي لمن يرفضه أن ينفلت من تحديداته), أدني ما يكون الي مجموعة وحدات حضارية تنغلق كل واحدة منها علي نفسها, وتستطيع لذلك أن تعيش بحسب قانونها الخاص, وهكذا عاش السلف إسلامهم بحسب ما يسمح به نظام هذا العالم البسيط, وأما اليوم, فإن العالم قد انفتح علي بعضه, علي النحو الذي أدي الي تبلور قيم سياسية وحقوقية تقوم علي حراستها مؤسسات عالمية لا يقدر أحد علي أن يضع نفسه خارج فاعلية تقريراتها الملزمة. وهنا ينبثق السئوال: هل يمكن للمسلم الراهن أن يعيش ضمن ظاهرة هذا العالم المنفتح والمعقد, في آن معا, بما ينتمي الي نظام عالم بسيط كان بمقدور كل تشكيل حضاري فيه أن ينغلق علي نفسه؟ لابد من الوعي بأن فاعلية ما أنتجه وفكر فيه السلف تقف عند حدود عالمهم ولسوف يكون من الظلم وعدم الإنصاف استدعاء هذا الذي أنتجوه وفكروا فيه للاشتغال في اطار اللحظة الراهنة, لما يؤول اليه ذلك من اظهار قصورها وعدم نجاعتها. وهنا يظهر واضحا أنه لا شيء يؤدي الي نسبة القصور الي ما أنتجه السلف إلا ما يمكن نسبته الي مسلمي هذه الأيام من الكسل والقصور العقلي الذي يجعلهم يستسهلون حلول السلف الجاهزة, بدلا من التفكير في ابداع حلول خلاقة لمشكلات واقعهم. والحق أن المسلم المعاصر لن يكون قادرا علي العيش في انسجام مع عصره, فاعلا فيه ومساهما في تشكيله وتحديد صورته, ما لم يعد النظر في طبيعة علاقته, لا مع السلف فقط, بل وهو الأهم مع مصادر الإسلام الكبري, وعلي رأسها القرآن. لابد, إذن, من إعادة النظر في علاقة الخضوع غير المسئولة من جانب المسلمين لأنظمة الفكر والمعرفة المتوارثة عن أسلافهم, ومنها المنظومة الفقهية بالطبع, ليس فقط لأن هذه المنظومة تعكس نوع وطبيعة علاقات القوة السائدة اجتماعيا وتاريخيا علي النحو الذي راح يضعها في تناقض مع الروح القرآني في بعض الأحيان, وذلك بحسب ما لاحظ البعض من المفسرين القدماء( كابن كثير), بل ولأن تلك المنظومة وهو الأهم تنبني علي نمط من العلاقة مع القرآن يحتاج الي مراجعة بسبب ما تنتهي اليه تلك العلاقة من إفقار القرآن والوعي معا. فعلي الرغم من أن الفضاء كان ولا يزال يتسع لضروب من العلاقات الممكنة مع القرآن, فإن علاقة بعينها مع القرآن هي التي سادت واستقرت بين المسلمين, بعد أن تحققت لها الغلبة والسيادة بعد سنوات قليلة من وفاة النبي( صلي الله عليه وسلم) الكريم, وأعني مع انفجار أحداث الفتنة الكبري التي تكاد تكون اللحظة الأكثر مركزية في تحديد مصائر الإسلام علي صعيدي السياسة والثقافة. فحين طلب معاوية بن أبي سفيان من جنده, الذين تهددتهم الهزيمة ودارت عليهم الدائرة في مواجهتهم مع جيش الإمام علي كرم الله وجهه إبان موقعة صفين الشهيرة, أن يرفعوا القرآن علي آسنة الرماح, فإنه كان يصوغ نوعا من العلاقة مع القرآن هو الذي ساد وترسخ للآن, وهي العلاقة التي يحضر ليها القرآن بما هو سلطة ناطقة بذاتها, ولا يمكن أن يكون موقف الناس منها إلا محض التكرار والإذعان. وفي كلمة واحدة, فإنه القرآن بما هو سلطة إخضاع. وبالطبع فإن الإمام علي قد راح يفضح الخديعة والمكيدة في هذه الحيلة الأموية, وما انبني عليها من العلاقة مع القرآن كسلطة ناطقة, مؤكدا أن الأمويين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن, وأنهم يحتالون بذلك سعيا إلي تثبيت سلطتهم السياسية. وهكذا فإنه قد مضي يؤكد أن القرآن ليس سلطة تملك لسانا تنطق به, بل إن الناس هم الذين ينطقون بلسانهم عنه, ويسعون إلي وضعه كسلطة ناطقة ليخفوا وراءها سلطتهم, ويضفو عليها قداسته. إن ذلك يعني أن القرآن يحضر عنده, لا كسلطة تنطق بلسان, وليس للناس إلا الإذعان لهذا الذي تنطق به, كالصم البكم العمي الخرس الذين لايفهمونه, بل كساحة يتفاعلون فوقها مع الوحي الإلهي, وينطقون عنها بما يفهمونه منها بحسب ظروفهم وأحوال زمانهم. وفي كلمة واحدة, فإنه القرآن هنا, لا كسلطة إخضاع, بل بما هو ساحة تفكير وإبداع. وهكذا فقد أدرك الإمام علي أنها سلطة الناس تريد أن تخفي نفسها وراء هذا التصور للقرآن كسلطة, وبما يعنيه ذلك من أن الناس يتصورون القرآن بحسب ما يريدون لأنفسهم أن يكونوا عليه. فإن أرادوا لأنفسهم أن يكونوا سلطة لا تملك المساءلة والمحاسبة( وهو ما أراده الأمويون لأنفسهم علي أي حال بحسب ما ظهر جليا مع عبد الملك بن مروان), فإنهم يتصورون القرآن كسلطة فوق البشر, وليس كموضوع لأفهامهم, وأما إذا تقبلوا أن تكون سلطتهم موضوعا لتقويم الناس ومحاسبتهم(بحسب ما أراد الإمام علي لنفسه فيما يبدو), فإنهم يتصورون القرآن ساحة لأفهام الناس وتفاعلاتهم. وإذن فإنه التحديد المتبادل, حيث يصوغ الناس صورة القرآن علي النحو الذي يخدم ما يريدونه لأنفسهم, وبما يعنيه ذلك أيضا من أن جوهر الأزمة إنما يقوم في نوع العلاقة الراسخة مع القرآن, وليس أبدآ في القرآن. وبالطبع فإنه إذا كانت طريقة معاوية والأمويين علي العموم, في تصور القرآن كسلطة إخضاع قد تحققت لها الهيمنة والسيادة, في مواجهة طريقة الإمام علي التي كان عليها أن تنزوي إلي الهامش مع الهزيمة التراجيدية للرجل في حقل السياسة, فإنه يبدو واضحا أن المسلمين لن يكونوا قادرين علي مواجهة أسئلة وتحديات اللحظة الراهنة, ما لم يعيدوا النظر في ذلك التصور الذي فرضه الأمويون للعلاقة مع القرآن. فإن إعادة النظر تلك, هي التوطئة اللازمة لعلاقة مع القرآن يستعيد معها حضوره كساحة تتفاعل فوقها أفهام البشر مع الوحي الإلهي علي نحو أكثر انفتاحا وحرية. ولعل ذلك وحده هو ما يسمح للقرآن نفسه بالانكشاف عن مكوناته الثمينة التي يعجز الوعي في حال فقره وخضوعه الراهن عن بلوغها والإمساك بها. وإذن فإن الحاجة ماسة لعلاقة مع القرآن يتحرر فيها الوعي من خضوعه من جهة, ويتجاوز فيها القرآن ما انتهي إليه من الترديد والتكرار من جهة أخري. ولعلي أقطع, عن يقين, بأن أي سعي إلي صوغ علاقة مع القرآن( وأكرر علاقة جديدة مع القرآن) سيجد نفسه ملزما بالبدء من الإجتهاد الثمين الذي قدمه الراحل الجميل نصر أبو زيد, وهو الإجتهاد الذي يعجز الكثيرون عن الإمساك بجوهره العميق لما يتخبطون فيه من سوء الفهم. المزيد من مقالات د.على مبروك