المؤكد أن علاقات مصر الخارجية بعد ثورة يناير سوف تشهد الكثير من التغيرات الجوهرية لتعويض الإخفاقات التي تعرضت لها مكانة مصر الدولية والإقليمية والتي تسببت في تراجع دورها وفي أن تحل المجاملات الدبلوماسية عند الحديث عن دور مصر أكثر من كون هذا الدور نابع عن حقائق ثابتة ومعترف بها بحكم القوة الذاتية وليس فقط بحكم التاريخ. في الذكري الخامسة والخمسين لبدء العلاقات المصرية الصينية تلقيت دعوة كريمة من السفارة الصينية بالقاهرة ومن المنظمة العالمية للكتاب الافروآسيويين لأكون متحدثا عن المناسبة ومغزاها في احتفالية بسيطة ظللتها أجواء ثورة 25 يناير التي أعادت الي الأذهان تلك الثورات الكبري التي كان لها نصيب وافر في مخزون التراث الانساني بما حققته من تغيرات شاملة سواء في بلدانها أو في المحيط حولها وبما قدمته من الهام في نفوس الشعوب المغلوبة علي أمرها. وإذا كان التاريخ يحسب للإنسانية ثلاث ثورات كبري شهدها النصف الأول من القرن العشرين وكان لها تأثير كبير فيما حولها من محيط جغرافي وفي السياسة الدولية, وهي ثورة اكتوبر 1917 في روسيا التي ارست دعائم ايديولوجية جديدة في العالم.. والثانية ثورة الصين التي اندلعت عام 1919 واستمرت 30 عاما الي إن وصلت لمبتغاها عام 1949. ويحسب التاريخ لمصر انها كانت الحاضنة لثورة يوليو عام 52 وهي الثالثة علي مستوي العالم الأكثر تأثيرا وقادها الجيش استجابة لطموحات وتطلعات الشعب وامتد أثرها للشعوب العربية والأفريقية وألهمت بفكرها المناضلين في آسيا وأمريكا اللاتينية. ويشاء القدر ان تشهد بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ثورة مصرية ثانية ولكنها نابعة هذه المرة من قلب الشارع وبإرادة جماهيرية هادرة سوف يمتد تأثيرها حتما الي ما حولها والعالم كله. الثورة المصرية الأولي بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر التقت الثورة الصينية بزعامة شوان لاي في باندونج وأثمر اللقاء عن اعتراف مصر بالثورة الصينية مما فتح الباب للاعتراف بها من جانب الدول العربية والأفريقية وكسر الحصار الغربي علي الصين, واثمر اللقاء عن تقديم القيادة الصينية لمصر عبد الناصر الي القادة السوفيت مما اسفر عن كسر احتكار السلاح والحصار الذي فرضه الغرب علي مصر الثورة.. وكان من نتيجة ذلك ان تغيرت الخريطة السياسية علي مستوي العالم بإنشاء حركة التضامن الافروآسيوي وحركة عدم الانحياز. وفي حين نجحت الثورة الصينية في الانطلاق بأكبر تعداد سكاني في العالم الي مصاف الدول العظمي بفضل الاعتماد علي العلم والارتقاء بالتعليم والتخطيط العلمي والتصنيع وتطوير أساليب الزراعة والالتزام بالقوانين الصارمة في محاربة الفساد, والمزج بين الفكرين الاقتصاديين الاشتراكي والرأسمالي, نجد ان الثورة المصرية لم تستطع أن تستكمل مسيرتها.. والغريب ان تعثرها جاء مباشرة بعد تسجيل أعظم انتصار عسكري علي العدو التقليدي اسرائيل وبعد انتشار عقيدة جديدة تؤكد ان الصراع سيظل مستمرا ولكن بأساليب حضارية وعلمية وان النفس الطويل في هذا الصراع هو الذي يحسم النتيجة النهائية.. إما أن تسلم إسرائيل بالحقوق المشروعة الفلسطينية والعربية وان استمرار وجودها مرتبط بعلاقات سلمية وطبيعية مع محيطها العربي.. واما أن تتمكن إسرائيل من فرض أجندتها الخاصة في الهيمنة والسيطرة وقيادة المنطقة الي شرق أوسط جديد تضيع من خلاله أحلام الشعوب في الحرية والاستقلال. لم تستطع مصر في ظل القيادات السياسية التي عاصرت وأعقبت انتصار أكتوبر العظيم ان تستكمل برنامجها التطويري الاقتصادي والسياسي.. وحدث الانقلاب الاقتصادي الكبير الذي خالف التجربة الصينية العظيمة منقضا علي كل ما هو ملك للشعب لتصفيته وإفشاله لصالح نظام رأسمالي جديد لم يستطع ان يقدم البديل القوي للاقتصاد المصري الذي تمكن من خوض ثلاث حروب محتفظا بكفاءته في تحقيق نسب عالية من التنمية وصلت الي نحو 8% سنويا وكان يلزمه قليل من التنظيم وكفاءة الإدارة وضخ الاستثمارات الجديدة واعتماد الانفتاح الرأسمالي الصناعي الضخم مع الحفاظ علي الأسس الاقتصادية القائمة وتطويرها للمنافسة. أدي ذلك الي تراجع اقتصادي مذهل وتفاقم المشكلات الناجمة عن هذا التراجع دون حلول حقيقية مما أدي الي غياب فكرة الدولة القوية وانتشار الفساد علي نطاق واسع ومتشابك واختلال العلاقات الاجتماعية وانهيار قيم أخلاقية كثيرة إضافة الي تراجع الدور المصري وخسارة أصدقاء تقليديين وضياع توظيف الأهمية الاستراتيجية للموقع الجغرافي العبقري لصالح الدولة المصرية.. والأكثر بشاعة كانت تلك الديمقراطية الزائفة التي اغتالت وخانت روح وفكرة الجمهورية وأوصلتنا الي ما يشبه الرضوخ لرغبات توريث الحكم. ويدور التاريخ دورة كاملة وتندلع الثورة الشعبية المصرية في 25 يناير لتأخذ الترتيب الرابع ضمن الثورات التي أثرت في الحال ومنتظر ان يمتد تأثيرها علي دول الجوار المطالبة الآن بإصلاحات فورية.. ولكن كيف يكون اللقاء هذه المرة بين الصين وبين الثورة المصرية في نسختها الشعبية الجديدة ؟.. هذا ما يحتاج الي فتح دائرة حوار حقيقي يضع مصالح الشعبين في المقدمة.. الأمر لن يعتمد علي العواطف, فلقد تغيرت قواعد اللعبة منذ أمد بعيد ودخلت اسرائيل علي خط المنافسة وان لم يكن الاستحواذ بما تقدمه من صناعات عسكرية دقيقة تحتاجها الصين وبما تملكه من نظم حديثة للري والزراعة.. علينا إذن أن نقدم ما يمكننا من أن نكون أهلا للمنافسة حتي وان كان ذلك علي مستوي الاستثمارات فقط. المزيد من مقالات محمد السعدنى