كان يري أنه لولا النقد والنقاد لهلك الناس, ولطغي الباطل علي الحق, ولامتطي الأراذل ظهور الأفاضل, وأنه بقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال. من ذا الذي يمكنه أن يقول مثل هذا الكلام إلا فنان في قيمة وقامة محمود بيرم التونسي المصري ابن الاسكندرية وان انحدر من سلالة تونسية. وهو عبقرية متعددة المواهب بشكل يندر تكراره فقد كتب الزجل والشعر الفصيح والأغنية وحوار الأفلام والسيناريو والأوبريت والمسرحية والرواية والقصة القصيرة, كل هذا رغم نفيه وتشريده خارج مصر لمدة ثمانية عشر عاما اشتغل خلالها من أجل استمرار الحياة في أشق الأعمال كالعمل في المناجم حتي كاد يفقد بصره ثم بعد هذا كله لا يحصل علي الجنسية المصرية إلا عام1954 وعلي أعلي وسام في الدولة المصرية عام1960أي قبل وفاته بعام واحد!! وليست مناسبة الكلام عن بيرم وموهبته ذكري ميلاده أو وفاته(4 مارس1893 5 يناير1961) وإنما المناسبة فوق هذا وقبله هي أن نعطي للرجل بعض حقه علينا, وقد كدنا ننساه فلو سألنا عنه جموع شبابنا فربما لن نحصل علي إجابة تتعدي انه كتب بعض الأغنيات لبعض مطربينا ومطرباتنا( أم كلثوم وفريد الأطرش) مثلا, لكن لن نجد فينا من يعرف أنه السيناريست لعدد من كلاسيكيات السينما المصرية مثل خالد بن الوليد والأفلام البدوية أو أنه فوق زجله وشعره ومقاماته صاحب أكثر من32 قصة قصيرة. والعجيب اللافت للنظر أن الدراسات العديدة التي تناولت كتابات بيرم لم تتناول مسألة اسهامه في كتابة القصة القصيرة ماعدا دراسة وحيدة للباحث الدكتور محمد صالح الجابري عن محمود بيرم التونسي في المنفي جمعها في مجلدين, وتضيف الباحثة الدكتورة سعيدة محمد رمضان عن فن القصة عند بيرم التونسي فتقول إن الواقعية كانت هي المحور الأساسي فيها ممتزجا بالطابع المحلي المصري, وان كان استمد مادة بعضها من أيام المنفي في باريس أو اعتمد فيها علي تصوير البيئة التونسية, وقد نشرت معظم هذه القصص في جريدتي الزمان والشباب بين عامي1933 و.1937يلفت النظر أيضا اغفال النقاد والباحثين لمسرحية عقيلة التي كتبها بيرم لمسرح فاطمة رشدي بطلب من عزيز عيد, وكان بيرم قد كتب للفرقة أيضا مسرحية ليلة من ألف ليلة فنجحت نجاحا باهرا لم يكتب لعقيلة ربما لأنها كانت عملا مقتبسا عن ميديا يوربيديس اليوناني والتي كتبها بصياغة أخري سنيكا الروماني ثم بصياغة ثالثة كورني الفرنسي ليأتي بيرم ويمصرها فيتحول فيها كريون ملك كورنثه الي الملك المظفر والد العروس كريوز التي تتحول الي الأميرة ثريا ويتحول جاسون ابن شقيق الملك بلياس الي الأمير ضرغام, أما ميديا ابنة الملك ايتيس فتصبح هي عقيلة.. وهكذا, وقد حقق بيرم في هذه المسرحية انجازين أولهما هو الوصول الي اللغة الثالثة التي تمتزج فيها الفصحي بالعامية والثاني هو محاولته العروضية الجريئة ثم معالجته الشرقية لعمل غربي, وإن لم تلق النجاح الذي تستحقه ولا اهتمام النقاد أيضا, علي أن أهم مايبقي هو جهد الشاعر محمد رامز أحد أحفاد بيرم التونسي الذي قدم لنا وبمجهود فردي أزجال بيرم كاملة وأوبريتاته ومقاماته(85 مقامة) ومسرحياته ورواياته, ووعد بأن يجمع أيضا قصصه القصيرة التي ننتظرها بكل لهفة.