خلال عصور طويلة سيطرت علي الشعوب نظم استبدادية من حكم الملوك والسلاطين, وأقلية تشكلت من رجال دين اعتبروا أنفسهم أسمي من رعاياها المنغمسة في الرذيلة والمعصية, وزعموا أن أفعالهم ملهمة من قبل الله, ونصبوا أنفسهم حكاما باسمه. والهدف أن يحكموا سيطرتهم علي الناس, ويدافعوا عن مصالحهم التي تميزت بالبزخ والإسراف والسلطان, ومن أجل ذلك أشاعوا الخرافة, وشرعوا المراتب بين الناس والطبقات, واشعلوا الحروب الطائفية, ووقفوا ضد اكتشافات العلم الحديث ومنطق العقل. والنتيجة أن غرقت الشعوب في التخلف والظلام. وكان مصير الناس أن يكونوا أمما من عبيد ورعايا مثلهم مثل قطيع الخراف والأغنام,لا تعرف ولا تملك من أمرها شيئا, وأن عليها الخضوع والطاعة وتسليم مصائرها لولي الأمر. وفي ظل ثورة الاتصالات والإعلام الحديثة تغيرت طبيعة المواطن المصري, الذي كان منذ عقود قليلة يعيش تحت الاحتلال الأجنبي, ثم أسيرا للهزيمة المروعة في1967, فتحول في أعماق الريف والمدن الفقيرة والطبقة الوسطي من فرد مطأطئ الرأس لا يقدر قيمة ذاته, تخلي عن مصيره, وغرق في خدمة دولة فاسدة, إلي مواطن توفرت له من أدوات المعرفة والاتصال, ما يجعله يتساءل عن الأسباب التي جعلت كاهله يرزح في مستنقعات الفساد والجهل, وتحت استبداد أقلية فاسدة خائنة للوطن, تعبث بمستقبله ومستقبل أطفاله. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ وعيه القدر الذي جعله يكتشف كيف أن هذه الأقلية الحاكمة, ضعيفة رعناء مهترئة. تفتقد إلي كافة المعايير الوطنية والأخلاقية لبقائها في مسئولية الحكم. عندما خرج المواطن لإسقاط النظام البائد, كان يستعيد الإرادة التي مكنته من أن يعلن أنه لم يعد يقبل بوصاية أحد علي حياته ومقدراته. وتحت ضربات العصي والقنابل وطلقات الرصاص الحي, أنصهر المصريون في أتون الثورة الملتهب, ليبعث مواطن جديد يقدر ذاته, ويقدس حريته وكرامته, مواطن يحترم حرية الآخرين, ويعلم أن له الحق في الدفاع عن حقوقه ضد محن وبلايا السلطة الظالمة. في تلك اللحظة التاريخية إمتلك المواطن المصري الأهلية القانونية لتوقيع العقد الاجتماعي. ولكن ما هو العقد الاجتماعي؟ العقد الاجتماعي وعي بالحرية, تأصل لدي المواطن, وعندما يؤمن مجموع أفراد الشعب بنفس القدر من الحرية, فأنهم يشرعون في الأقدام علي توقيع عقد جمعي; غايته بناء مجتمع جديد يحمون فيه حرياتهم, ويقدسون كرامتهم وإنسانيتهم, عقد يشرع المساواة فيما بينهم بدون تمييز, ويؤمن لهم حقوقهم في مواجهة السلطة العامة. ويسعي إلي التقليل من خطرها, يبطل وجود أجهزتها القمعية, ويكبح نوازع الاستبداد والطغيان والانفراد بالسلطة في مواجهة الفرد الذي لم يعد بعد الآن غنمة في قطيع تابع, وإنما مواطن بين الأحرار.ولكن ما هي الكيفية التي يتم بها إشهار هذا العقد؟ أنه الدستور; فالدستور هو الوثيقة التي تقوم بمهام التشريع والصياغة القانونية والسياسية للعقد الاجتماعي الجديد, ولأنه كذلك فأن أول ما يكرس له الدستور هو الحقوق التي ثار من أجلها المواطن, والتي كانت الشرط الموضوعي الذي وفر بزوغ هذا العقد, وجعل منه مطلبا عاما لدي شباب الثورة. لهذا يعتبر إعلان حقوق المواطن روح الدستور وقلبه, وأحد أهم الغايات التي من أجلها تصاغ الوثيقة الدستورية في الدولة المدنية الحديثة, ويعد إعلان الحقوق المدخل الحاكم لكل النصوص الدستورية اللاحقة. أي أنه يعطل ويبطل كل نص تعارض أو أنتقص أو أجترئ علي هذه الحقوق. وتتضمن حقوق المواطن ثلاثة مبادئ, يعتبر أي مساس بها أو الالتفاف عليها, اغتيابا للثورة وانتقاصا من أهدافها: أولا: الناس يولدون أحرارا متساوون: في الكرامة والحقوق وهم سواسية أمام القانون, دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي. ثانيا: حق المواطن في الحياة والحرية وسلامة شخصه. وعدم جواز استعباده, أو تعرضه للتعذيب أو الحط من كرامته, بأي صورة من الصور, وليس لسلطة أن تتدخل بشكل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته. ثالثا: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والرأي والتعبير والدين, والتظاهر السلمي والإضراب, وتشكيل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات السلمية. ورغم ذلك فأن للحرية أعداءها: الاستعمار الذي رأي المصريين شعبا متخلفا لا يرقي لمصاف البشر, ليس من حقه دستورا أو مجلس نيابي, وبمعاونة الخديو وأتباعه الخونة قامت الإمبراطورية البريطانية باحتلال مصر في1882 بدعوي أن مجلسها النيابي ليس له الحق أو الأهلية لمراقبة الدين العام, ومن ثم الميزانية, وعندما احتلت البلاد حل المجلس النيابي وإلغي أول دستور لمصر الحديثة, واكتفي بمجلس للشوري, وتم تسريح الجيش, وكانت النتيجة كبح التطور الديمقراطي والعودة بالوطن إلي القرون الوسطي. النظام البائد الذي زعم رئيس وزرائه أحمد نظيف أن المصريين لم يبلغوا بعد الحد الذي يؤهلهم لحكم ديمقراطي. أخيرا رجال دين يرون أن الحرية قيمة شائنة, وانحلال أخلاقي, ودعوة للشذوذ, يبكون انهيار الأخلاق والقيم التي ستأتي بها الحرية, ويرسلون سهامهم إلي أكثر المواضيع إثارة لديهم وهي المرأة المصرية, فيحطون من كرامتها لتصبح عورة, وشيطانا يجب أسره في سجن منيع لا تصل إليه الأنظار. فمن هو صاحب المصلحة الآن في خطاب معادي لأمهاتنا وأخواتنا ونسائنا وبناتنا؟ وما الهدف من خلق نزاع بين المصريين حول عمل المرأة, وسفورها وحجابها, بدلا من الانشغال في حوار مجتمعي خلاق حول البحث العلمي والإبداع الفكري والتنمية والبناء والرخاء في دولة المستقبل. وبكل بهاء وجلال ستسجل الأمة في ذاكرتها للمرأة المصرية, مشهد عشرات الألاف من بنات في العشرين, ضامرات العود محجبات وسافرات, ونساء عاملات في الثلاثين والاربعين وأمهات إفترشن ميادين الوطن ليلا ونهارا بعزة وكبرياء وعزيمة لا تلين, يشاركن معارك الحجارة والمولوتوف ضد السلطة, ويتلقين رصاص الموت, من أجل وطن للحرية. الحلف المعادي لحرية المواطن وكرامته يمتد من الاستعمار إلي الاستبداد إلي التخلف, يتباينون في الدوافع ويتفقون علي الأهداف, وأخيرا هل الحرية هي الدافع الوحيد الذي يدعو المصريين للتوقيع علي العقد الإجتماعي؟ لا فالعقد الإجتماعي يتضمن قواعد وأسسا جوهرية تتأسس علي مبدئه الأول, وهو الحرية ومن أهمها الإجابة سؤال من هو صاحب السيادة ؟ المزيد من مقالات فتحى امبابى