هل تكتسب الكلمات هنا خصوصية وأهمية لكونها صادرة عن لسان السيدة تحية جمال عبدالناصر حرم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر؟ أم لأنها كلمات صادقة وعفوية ودافئة وشاهدة في الوقت نفسه علي أحداث عديدة حاسمة مرت بها بلادنا؟ سؤال ألح علي وأنا أقرأ صفحات كتاب( ذكريات معه دار الشروق) للسيدة تحية.. الزوجة هنا تتحدث.. تفضي بمشاعرها وإحساساتها المختلفة.. تفعل ذلك بشكل عفوي وحميمي, فتشعر قارئها بتلك الخصوصية الآسرة التي تفوح من كلماتها المباشرة البسيطة.. وكأنها تجلس في غرفة معيشتها علي أريكة مريحة, ترتشف كوبا من الشاي وتتحدث عن ذكرياتها العزيزة وأوراق عمرها الماضية, التي لم تبرح كيانها قط.. هذه البساطة في الحوار.. وهذه التلقائية في الحديث, تجعل الكتاب قريبا من القلب وتجعله وهو الأهم عندي- يؤرخ لحقبة مهمة وحيوية شهدتها مصر من وجهة نظر إنسانية, تحمل معها تفاصيل خاصة ربما لا نعرف عنها الكثير.. يختلط الخاص هنا مع العام صانعا مزيجا بديعا من الكلمات والعبارات والذكريات.. يكاد القاريء يستمع إلي صوت الزوجة تحية وهي تتحدث إلي زوجها( الرئيس) كما كانت تناديه دوما.. يكاد يعيش في بيت الزعيم جمال عبدالناصر.. ويدخل غرفه ويسكن في حجراته.. تقول الزوجة المحبة الوفية.. لقد عشت معه مرحلتين, قبل الثورة وبعدها, والمرحلة الثالثة هي التي أعيشها بعد رحيله ولم يرها.. آه ما أصعبها.. يا لها من مرحلة قاسية من كل الوجوه. فراقه وافتقادي له.. لم أفتقد أي شيء إلا هو, ولم تهزني الأعوام الثمانية عشر إلا أنه زوجي الحبيب.. أي لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية. هذه زوجة مصرية طيبة, آثرت أن تقف الي جوار زوجها( الرئيس) تسانده.. تأخذ بيده.. تدفعه الي النجاح.. دون أن تتدخل في تفاصيل عمله وحياته السياسية.. لقد شعرت بأن هذا هو دورها الأهم في حياته ومشواره: توفر له سبل الراحة والأمان, وتبعث في قلبه الطمأنينة, وتمنحه هذا الحنان الدافق الذي يحتاجه الرجل في حياته حتي ولو كان رئيسا للجمهورية! بيتها مفتوح للجميع.. الصالون مشغول دائما.. الضيوف يأتون من كل صوب ومكان.. ضباط وزوار يتحدثون.. ويتهامسون.. ثمة أمور عديدة مريبة في عينيها وربما أيضا غير مريحة, لكنها مع ذلك تصمت وتحرص علي الكتمان, بل وتشعر بالرضاء والسعادة.. تقول: لم يكن علي باب مسكننا جرس وكنت أقول في نفسي: كيف لا يكون علي باب مسكننا جرس؟, ولم يقل لي شيئا عن الجرس.. وأنا لم أعلق.. كنت سعيدة هانئة, لم يضايقني أي شيء أبدا, وكل ما يدور حولي أجده حياتي السعيدة وأضحك كثيرا.. ووبرغم سهر جمال خارج البيت وانشغاله لم أشك أو يخطر في بالي أن أشك في وفائه ونبله واخلاصه لي ولأولاده.. وكل شيء أراه في نظري السعادة فقط وأحرص علي أن أقوم بكل ما استطيع وألا أغلط.. يطل علينا جمال عبدالناصر بوجه آخر مختلف عن وجه الزعيم السياسي ورئيس الجمهورية الذي يحمل فوق أكتافه هموما وأعباء لا نهاية لها. هو هنا الزوج والأب الحاني الذي يهتم بأحوال زوجته وشئون بيته.. يصحبها الي الطبيب لمتابعة حملها.. يعتني بصحتها وطعامها ويذهب معها الي السينما كلما سمح وقته بذلك, تماما مثل أي زوج. (كنا نخرج سويا ونذهب الي السينما, وكنا أياما نخرج قبل ميعاد السينما, ونركن العربة الأوستن السوداء في شارع جانبي ونتمشي سويا في شارع فؤاد 26 يوليو حاليا وشارع قصر النيل حتي موعد ابتداء الفيلم). وسط حصار الفالوجة, وإنقطاع الاتصال, كان يرسل لها الخطابات التي تطمئن قلبها بعض الشيء.. يقول في أحد الخطابات: أرجو أن تفسحي هدي دائما وتأخذيها جنينة الحيوان وجنينة الأسماك.. أرجو أن تكونوا دائما في أسعد حال.. هكذا يتحدث جمال عبدالناصر.. الزوج والأب الحنون.. الشهادة السياسية تسير جنبا الي جنب مع الشهادة الإنسانية العذبة التي تقدمها لنا تحية عبدالناصر. نعايش ميلاد الثورة ومخاضها الأول.. وهناك كذلك فترة المباحثات مع الانجليز ومرحلة تأميم شركة قناة السويس ونشهد الوحدة والانفصال مع سوريا.. ونسترجع أحزان عدوان يونيو.1967 تقدم لنا الزوجة شهادتها الحية علي الأحداث التي عصفت بمصر منذ حرب فلسطين1948 حتي رحيل عبدالناصر في قالب سيرة ذاتية جديرة حقا بالقراءة والتأمل.. ويطل علينا عبر صفحات الكتاب جمال عبدالناصر, الزوج والأب والزعيم السياسي الذي تظل قامته المديدة شامخة الي يومنا هذا, بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي حرصت رفيقة حياته علي سردها في شهادتها الفريدة..