المرجعية المدنية! الفارق بين حزب الحرية والعدالة في مصر, وحزب العدالة والتنمية في تركيا, وكلاهما أصوله تعود إلي حركة الإخوان المسلمين, أن الأول يعتبر نفسه حزبا مدنيا له مرجعية إسلامية; والثاني يري في نفسه حزبا مدنيا وله مرجعية مدنية أيضا. هذا الفارق جوهري في التجربة العملية لأنها تحدد البدايات الأولي للتجربة السياسية كلها حيث المدنية تعود إلي كل ما هو من أمور البشر, وفي السياسة الديمقراطية فإن البشر يصيرون شعبا, والشعب هو مصدر السلطات كلها, ولا يكون ذلك إلا في دولة تكون مرجعيتها- أي مصدر القوانين فيها- الدستور. الدولة هي في النهاية تعاقد بين بشر, ولولا هذا التعاقد لما كان هناك شعب, ولو لم يكن هناك شعب يضم ألوانا وأديانا ومذاهب كثيرة لما كان ممكنا إقامة الديمقراطية. ومن المدهش أن ذلك كان هو السلاح الأساسي لحزب العدالة والتنمية التركي في تجربته للانتصار تواجدا في البداية علي خلاف ما جري لأحزاب مدنية ذات مرجعية إسلامية قبله مثل الرفاهة والفضيلة; وفي النهاية استبعادا لدور العسكر في الحياة السياسية. وبعد الانتخابات الأخيرة, يجري الاستعداد لتعديل الدستور للتخلص من آخر بقايا الأصولية العلمانية من خلال إقامة نظام رئاسي ديمقراطي يكون فيه الشعب حقا وقولا هو مصدر السلطات. التجربة هكذا تكتمل ويصبح لا مكان فيها لحزب علي ومعاوية والخوارج وكلهم بمرجعيات إسلامية يكون التحكيم فيها برفع المصاحف علي أسنة الرماح. هذا لا يجعل ما لله لله وما لقيصر لقيصر, ولكنه في التجربة التركية حيث الحزب مدني والدولة مدنية والمرجعية مدنية أيضا تجسيد لما يعتقد أنه جوهر الدين الإسلامي حيث الناس في كل العصور أعلم بشئون دنياهم. والدنيا هي العصر والزمن والتجربة ومصالح العباد ومقاصد الخير وكرامة الإنسان المكلف بالعمران. الاجتهاد مطلوب من جماعة الإخوان المسلمين لأن المسئولية التاريخية في نجاح الثورة سوف تتوقف علي بناء نظام سياسي واجتماعي يقوم علي المدنية والالتحام مع الحضارة العالمية وليس الخصام معها. كل ذلك لا ينفي النوافذ الكثيرة المؤثرة في فكر الإنسان وفي المقدمة منها الدين الذي يلهم الاجتهاد والتفكير وأخلاقيات العمل السياسي ولكنه لا يجب مصادر أخري رأتها تركيا فيما قدمته لها التجربة الأوروبية في التحديث والتقدم التي أخذتها تركيا أخيرا بالجدية التي تستحقها. المزيد من أعمدة د.عبد المنعم سعيد